حتى تم للإسلام النصر، وحتى أظهر الله دينه على الدين كله.
الفصل الثامن
من نقض الصحيفة إلى الإسراء
(فرار المسلمين من مكة إلى شعاب الجبل - عدم اختلاطهم بالناس إلا في الأشهر الحرم - قيام زهير وأصحابه في نقض الصحيفة - وفاة أبي طالب وخديجة - إيذاء قريش محمدا - ذهاب محمد إلى الطائف ورد ثقيف إياه - الإسراء والمعراج) ***
ظلت الصحيفة التي تعاقدت قريش فيها على مقاطعة محمد وحصار المسلمين نافذة ثلاث سنوات متتابعة، احتمى محمد وأهله وأصحابه خلالها في شعب من شعاب الجبل بظاهر مكة، يعانون الحرمان ألوانا، ولا يجدون في بعض الأحايين وسيلة إلى الطعام يدفعون به جوعهم. ولم يكن يتاح لمحمد ولا للمسلمين الاختلاط بالناس والتحدث إليهم إلا في الأشهر الحرم، حين يفد العرب إلى مكة حاجين، وحين تضع الخصومات أوزارها، فلا قتل ولا تعذيب ولا اعتداء ولا انتقام. في هذه الأشهر كان محمد ينزل إلى العرب يدعوهم إلى دين الله ويبشرهم بثوابه وينذرهم عقابه. وكان ما أصاب محمدا من الأذى في سبيل دعوته شفيعه عند كثيرين؛ حتى لقد زادهم ما سمعوا من ذلك عليه عطفا، وعلى دعوته إقبالا. وهذا الحصار الذي أوقعته قريش واحتماله إياه صابرا في سبيل رسالته، كسب له كثيرا من القلوب التي لم تبلغ منها القسوة ما بلغت من قلب أبي جهل وأبي لهب وأمثالهما.
على أن طول الزمن وكثرة ما أصاب المسلمين من عنت قريش - وهم منهم إخوانهم وأصهارهم وأبناء عمومتهم - جعل كثيرين يشعرون بفدح ما ارتكبوا من ظلم وقسوة. فلولا أن كان من أهل مكة رجال، لديهم على المسلمين عطف، يحملون إليهم الطعام في الشعب الذي احتموا به لهلكوا جوعا. وكان هشام بن عمرو من أحسن قريش في هذه البأساء عطفا على المسلمين؛ كان يأتي بالبعير قد أوقره طعاما أو برا فيسير به جوف الليل، حتى إذا استقبل فم الشعب خلع خطامه ثم ضرب على جنبه فيدخل البعير الشعب عليهم. ولما ضاق بما يحتمل محمد وأصحابه من الأذى صدرا، مشى إلى زهير بن أبي أمية، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت، ولا يبتاعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم؟! أما إني أحلف بالله أن لو كان أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا. وتعاهد الرجلان على نقض الصحيفة، على أن يستعينوا على ذلك بغيرهم يقنعونهم به سرا. واتفق معهما المطعم بن عدي وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود، وأجمع الخمسة أمرهم وتعاهدوا على القيام في أمر الصحيفة حتى ينقضوها.
وغدا زهير بن أمية فطاف بالبيت سبعا. ثم نادى في الناس: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم؟! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة! وما كاد أبو جهل يسمعه حتى صاح به كذبت والله لا تشق! فتصايح زمعة وأبو البختري والمطعم وهشام بن عمرو كلهم يكذبون أبا جهل ويؤيدون زهيرا. وأدرك أبو جهل أن الأمر قضي بليل، وأن القوم اتفقوا عليه، وأن مخالفتهم قد تثير شرا، فأوجس خيفة وتراجع، وقام المطعم ليشق الصحيفة فوجد الأرضة قد أكلتها إلا فاتحتها «باسمك اللهم». وبذلك أتيح لمحمد وأصحابه أن يعودوا من الشعب إلى مكة، وأن يبيعوا قريشا ويبتاعوا منها، وإن بقيت صلات الفريقين كما كانت وبقي كل منهم متحفزا ليوم يستعلي فيه على صاحبه.
ذهب بعض كتاب السيرة إلى أن الذين قاموا في نقض الصحيفة، ممن كانوا لا يزالون على عبادة الأوثان، ذهبوا إلى محمد يسألونه، منعا للشر، أن يتصالح وقريشا على شيء، كأن يسلم بآلهتهم ولو بطرف أصابعه. فمالت نفسه إلى شيء من هذا تقديرا لجميلهم، وقال فيما بينه وبين نفسه: «وما علي لو فعلت والله يعلم أن بار؟!» أو إلى أن هؤلاء الذين نقضوا الصحيفة وجماعة معهم خلوا بمحمد ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخمونه ويسودونه ويقاربونه ويقولون له: أنت سيدنا، يا سيدنا؛ وأنهم ما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون. وهاتان الروايتان هما بعض ما حدث به سعيد بن جبير في الأولى وقتادة في الثانية. ويذكرون أن الله عصم محمدا بعد ذلك، وأنزل عليه قوله:
وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا * إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا .
1
Halaman tidak diketahui