وهذه الأصنام جميعا، سواء منها ما كان بالكعبة أو حولها وما كان في مختلف جهات بلاد العرب وبين مختلف قبائلها، كانت تعتبر الوسيط بين عبادها وبين الإله الأكبر. وكان العرب لذلك يعتبرون عبادتهم إياها زلفى يتقربون بها إلى الله وإن كانوا قد نسوا عبادة الله لعبادتهم هذه الأصنام.
ومع أن اليمن كانت أرقى بلاد شبه الجزيرة كلها حضارة بسبب خصبها وحسن تنظيم انحدار المياه إلى أرضها، لم تكن مع ذلك مطمح النظر لأهل هذه البلاد الصحراوية المترامية الأطراف، ولم يكن إلى معابدها حجهم؛ وإنما كانت مكة وكانت كعبتها بيت إسماعيل مثابة الحاج، إليها كانت تشد الرحال وتشخص الأبصار، وفيها أكثر من كل جهة سواها كانت ترعى الأشهر الحرم. لذلك ولمركزها الممتاز في تجارة العرب كلها، كانت تعتبر عاصمة شبه الجزيرة. ثم أراد القدر من بعد أن تكون مسقط رأس محمد النبي العربي، فتكون بذلك متجه نظر العالم على توالي القرون، ويظل لبيتها العتيق تقديسه، وتبقى لقريش فيها المكانة السامية، وإن ظلت وظلوا جميعا أدنى إلى خشونة البداوة التي كانوا عليها منذ عشرات القرون.
الفصل الثاني
مكة والكعبة وقريش
(موقع مكة - إبراهيم وإسماعيل - قصة الذبح والفداء - زمزم - زواج إسماعيل من جرهم - بناء الكعبة - ولاية جرهم أمر مكة - قصي وأولاده - اجتماع أمر مكة لقصي القرشي - هاشم وعبد المطلب - وظائف مكة الزمنية والدينية - الحج إلى الكعبة - قصة أبرهة والفيل - عبد الله بن عبد المطلب - قصة فدائه) ***
في وسط طريق القوافل المحاذي للبحر الأحمر ما بين اليمن وفلسطين، تقوم عدة سلاسل من الجبال تبعد نحو الثمانين كيلومترا من الشاطئ. وهي تحيط بواد غير فسيح، تكاد تحصره لولا منافذ ثلاثة، يصله أحدها بطريق اليمن، ويصله الثاني بطريق قريب من البحر الأحمر «بحر القلزم» عند مرفأ جدة، ويصله الثالث بالطريق المؤدي إلى فلسطين. في هذا الوادي المحصور بين الجبال تقوم مكة. ومن العسير معرفة تاريخ قيامها. وأكثر الظن أنه يرجع إلى ألوف من السنين خلت. والثابت أن واديها اتخذ من قبل أن تبنى موئلا لراحة رجال القوافل، بسبب ما كان به من بعض العيون، وأن رجال القوافل هؤلاء كانوا يجعلون منها مضارب لخيامهم، سواء منهم القادمون من ناحية اليمن قاصدين فلسطين والقادمون من فلسطين متجهين إلى اليمن. والراجح أن إسماعيل بن إبراهيم أول من اتخذها مقاما وسكنا، بعد أن كانت مجرد محلة للقوافل وسوقا للتجارة يقع فيها التبادل بين الآتين من جنوب الجزيرة والمنحدرين من شمالها.
وإذا كان إسماعيل أول من اتخذ مكة مقاما وسكنا، فإن تاريخها فيما قبل ذلك غامض كل الغموض. وربما أمكن القول بأنها اتخذت مقاما للعبادة قبل أن يجيء إسماعيل إليها ويقيم بها. وقصة مجيئه إليها تدعونا إلى أن نلخص قصة أبيه إبراهيم عليهما السلام. فقد ولد إبراهيم بالعراق لأب نجار كان يصنع الأصنام ويبيعها من قومه من يعبدونها. فلما شب إبراهيم ورأى الأصنام يصنعها أبوه، ثم رأى قومه من بعد ذلك كيف يعبدونها وكيف يخلعون على هذه القطع من الخشب التي مرت بين يديه ويدي أبيه كل ذلك التقديس، ساوره الشك في أمرها، وسأل أباه كيف يعبدها وهي من صنع يده؟!
وتحدث إبراهيم بذلك إلى الناس؛ فاهتم أبوه لأمره مخافة ما يجره من بوار تجارته. لكن إبراهيم كان يحترم عقله، ويريد أن يحمل الناس بالحجة على الاقتناع برأيه؛ فانتهز غفلة الناس فذهب إلى هذه الآلهة فكسرها إلا كبيرها، فلما جيء به على أعين الناس قيل له:
أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون .
1
Halaman tidak diketahui