وكان طبيعيا إذن أن يرسم أمراء الصحراء هؤلاء طرق القوافل من أنحائها فيما لا يخاف خطره، كما يرسم رجال البحر خطوط سير السفن بعيدة عن شعاب البحر ومخاطره. يقول هيرن: «لم يكن طريق القافلة شيئا متروكا للاختيار بل كان مقررا بالعادة. ففي هذه المراحل الفسيحة من الصحراء الرملية التي كان رجال القوافل يجتازونها، حبت الطبيعة المسافر بضعة أماكن مبعثرة في جدب البادية يتخذها موئلا لراحته. وهناك، في ظلال أشجار النخيل وإلى جانب المياه العذبة التي تجري من حولها، يستطيع التاجر ودابة حمله أن ينهلا من صيبها ما أحوجهما إليه العنت الذي لقيا. وأصبحت منازل الراحة هذه مستودعات للتجارة، وصار بعضها مقاما للهياكل والمحاريب، يتابع التاجر في حمايتها تجارته، ويلجأ الحاج إليها لالتماس العون منها.»
1
كانت شبه الجزيرة تموج بطرق القوافل. وكان منها طريقان رئيسيان. فأما أحدهما فيتاخم الخليج الفارسي، ويتاخم دجلة، ويقتحم بادية الشام إلى فلسطين؛ ويصح لمجاورته حدود البلاد الشرقية أن يسمى طريق الشرق. وأما الآخر فيتاخم البحر الأحمر؛ ويصح لذلك أن يسمى طريق الغرب، وعن هذين الطريقين كانت تنتقل مصنوعات الغرب إلى الشرق ومتاجر الشرق إلى الغرب، وكانت تجبى إلى البادية أسباب الرخاء والرفاهية. على أن ذلك لم يزد أهل الغرب معرفة بهذه البلاد التي تجتازها تجارتهم. فقد كان الذين يعبرونها من أهل الشرق والغرب قليلين؛ لما في عبورها من مشقة لا يحتملها إلا الذين اعتادوها منذ نعومة أظفارهم، والمجازفون الذين يستهينون بالحياة، حتى أضاعها كثير منهم في هذه المهامه والفدافد عبثا. وما احتمال رجل اعتاد بلهنية الحضر لوعثاء هذه الجبال الجرداء التي تفصل تهامة بينها وبين شاطئ البحر الأحمر بفاصل ضيق؛ فإذا بلغها المسافر في تلك الأيام، التي لم تعرف غير الجمل مطية للسفر، ظل يصعد بين قممها حتى تقذفه إلى هضاب نجد الصحراوية القليلة الغناء؟! وما احتمال رجل اعتاد النظام السياسي الذي يكفل للناس جميعا طمأنينتهم لعنت هذه البادية التي لا يعرف أهلها نظاما سياسيا بل تعيش كل قبيلة، بل كل أسرة، بل كل فرد وليس ما ينظم علاقته بغيره إلا روابط عصبية الأسرة والقبيلة، أو قوة الحلف، أو حمى الجوار يرجو الضعيف به رعاية قوي إياه؟! فقد كانت حياة البادية في كل العصور حياة خارجة على كل نظام عرفه الحضر، مطمئنة إلى العيش في حمى مبادئ القصاص، ودفع العدوان بالعدوان، واغتيال الضعيف ما لم يجد من يجيره. وليست هذه بالحياة التي تشجع على التطلع إلى استكناه أخبارها والتحقق من تفاصيل نظمها. لذلك ظلت شبه الجزيرة مجهولة عند سائر العالم يومئذ ، إلى أن أتاحت لها الأقدار، بعد ظهور محمد عليه الصلاة والسلام فيها، أن يقص أخبارها من نزح عنها من أهلها، وأن يقف العالم على كثير مما كان العالم من قبل ذلك في أتم الجهل به.
لم يند من بلاد العرب عن جهالة العالم سوى اليمن وما جاورها من البلاد المتاخمة للخليج الفارسي. وليس يرجع ذلك إلى متاخمتها الخليج الفارسي أو المحيط الهندي أو البحر وكفى، ولكنه يرجع قبل ذلك وأكثر منه إلى أنها لم تكن كسائر شبه الجزيرة صحراوية جرداء لا تلفت العالم ولا تجعل لدولة من صداقتها فائدة ولا لمستعمر فيها مطمعا. بل كانت على الضد من ذلك موطن خصب في الأرض ومطر منتظم الفصول في تهتانه، ومن ثم موطن حضارة مستقرة ذات مدائن عامرة ومعابد قوية على نضال الزمان. وكان سكانها من بني حمير ذوي فطنة وذكاء وعلم هداهم إلى حسن الاستفادة من الأمطار حتى لا تتسرب إلى البحر فوق الأرض المنحدرة إلى ناحيته؛ ولذلك أقاموا سد مأرب، فحولوا اتجاه المياه الطبيعي تحويلا تقتضيه حياة الحضارة والاستقرار، فقد كانت الأمطار، إلى أن أقيم هذا السد، تنزل بجبال اليمن المرتفعة، ثم تنحدر في أودية واقعة إلى شرق مدينة مأرب، وكانت في انحدارها الأول تنزل بين جبلين يقومان عن جانب هذه الأودية يفصل بينهما أربعمائة متر تقريبا؛ فإذا بلغت مأرب انفرج الوادي انفراجا تضيع المياه فيه كما تضيع في منطقة السدود بأعالي النيل. فلما هدى العلم والذكاء أهل اليمن إلى إقامة سد مأرب شيد بالحجر عند مضيق الوادي، وجعلت له فتحات يمكن تصريف المياه منها وتوزيعها إلى حيث يشاء الناس لتروي الأرض وتزيدها خصبا وإثمارا.
وإن ما كشف وما يزال يكشف عنه حتى اليوم من آثار هذه الحضارة الحميرية في اليمن ليدل على أنها بلغت في بعض العصور مكانا محمودا، وأنها ثبتت لقسوة الزمان في عصور قسا على اليمن فيها الزمان.
على أن هذه الحضارة وليدة الخصب والاستقرار جلبت على اليمن من الأذى ما منع الجدب منه أواسط شبه الجزيرة . فقد ظل ملك اليمن في بني حمير يتوارثونه حينا ويثب عليه حميري من الشعب حينا آخر حتى ملكهم ذي نواس الحميري. وكان ذو نواس هذا ميالا إلى دين موسى، راغبا عن الوثنية التي تورط فيها قومه، وكان قد أخذ هذا الدين عن اليهود الذين هاجروا إلى اليمن وأقاموا بها. وذو نواس الحميري هذا هو - فيما يذكر المؤرخون - صاحب قصة أصحاب الأخدود التي نزل فيها قوله تعالى:
قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود * وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد
2
وخلاصة هذه القصة أن رجلا صالحا من أتباع عيسى يدعى قيميون، كان قد هاجر من بلاد الروم واستقر بنجران، فاتبعه أهلها لما رأوا صلاحه وظل عددهم يزداد حتى استفحل أمرهم. فلما نمى خبرهم إلى ذي نواس سار إلى نجران، ودعا أهلها إلى الدخول في اليهودية أو يقتلوا. فلما أبوا شق لهم أخدودا أوقد فيه النار ثم ألقى بهم فيها، ومن لم يمت بالنار قتل بالسيف ومثله به. وقد هلك منهم، على رواية كتب السيرة، عشرون ألفا.
ثم إن أحد هؤلاء النصارى فر من القتل من ذي نواس وسار حتى أتى قيصر الروم جوستنيان فاستنصره على ذي نواس. ولما كانت الروم بعيدة عن اليمن كتب القيصر إلى النجاشي ليأخذ بالثأر من ملك اليمن. ويومئذ (في القرن السادس الميلادي) كانت الحبشة والنجاشي على رأسها في ذروة مجدها تجري بأمرها على البحار تجارة واسعة، ويمخر لها العباب أسطول قوي
Halaman tidak diketahui