59

Hayat Masih

حياة المسيح: في التاريخ وكشوف العصر الحديث

Genre-genre

منذ الخطوة الأولى التي خطاها السيد المسيح في التبشير برسالته، أخذ على نفسه أن يعتزل «السلطة»، ويتنحى لها عن ميدانها، فلا يتصدى لها بإبطال أو بإنقاذ؛ لا يبدلها، ولا يدعي لنفسه ولايتها، وحق لكل معلم قادر أن يسلك تلك الخطة في زمنه، فإنه - كما تقدم - قد نشأ في دنيا تشكو الكظة من الشرائع والأوامر والنواهي والحكام والمتحكمين؛ ما فاض من رومة الشرائع تملؤه مراسم الهيكل وشعائره ومحللاته ومحرماته، وما فاض من رومة ومن الهيكل ملأته سيطرة هيرود وأبنائه وأذنابه وتابعيه، ولا حاجة إلى مزيد من الأحكام مع فساد الحكام، فإذا وجب إصلاح بعضها، فالخير من إصلاحه لا يساوي جهد الحرب التي تشنها طائفة ضعيفة على دولة الرومان، وعلى دولة الهيكل، وعلى الدويلة الأدومية اليهودية التي تشايع الدولتين، وتعمل لحسابها بعد حساب هاتين القوتين، ومن المحقق أن الشر الذي ينجم من ذلك الجهد أخطر وأفدح من الخير الذي يتأتى من ورائه، إن تأتى، وقد يدرك بإصلاح الضمائر، وتهذيب الآداب الإنسانية، وتعليم الآحاد أمثلة من الأخلاق تهدي أصحابها حيث تضلهم الشرائع والقوانين.

إلا أنه بهذه الحيدة عن طريق السلطة قد ترك ميدانها فلم تترك له ميدانه، وسرعان ما أقبلت عليه الجموع حتى أحست السلطة - سلطة الدين قبل كل شيء - بالخطر المقبل من ذلك الداعية المحبوب، وكل داعية محبوب خطر على سلطة التقاليد والجمود.

جاءوا في ميدانه بعد أن ترك لهم ميدانهم، ووقع الاشتباك الذي لا بد منه بين سلطة شعارها المبالغة في الاتهام، والبحث عن المخالفات والعقوبات، وبين دعوة شعارها تيسير التوبة للخاطئين، وتمهيد سبل الرجاء في الغفران.

كان التبشير بالغفران والتوبة أكبر ذنوب الداعي الجديد؛ لأن الخطايا والعقوبات بضاعة السلطان القائم، وهي على كونها مصلحة مريحة، باب للفخر والكبرياء.

فجاءوا يسوقونه إلى حيث أبى أن يساق، وكان همهم الأكبر أن يثبتوا عليه أن يبطل شريعة، أو يتصدى لتنفيذ ذريعة، فأعنتوا عقولهم في البحث عن المشكلات والألغاز التي يفتي فيها بما يخالف الشريعة الدينية، أو القوانين السياسية، أو يفتي فيها بما يخالف آداب الرحمة، ووصايا السماحة والصلاح.

برز له مرة واحد من جموع السامعين، فقال له: أيها المعلم! مر أخي يقاسمني الميراث. وظن أنه يتولى هنا سلطة التقسيم بحق الكرامة على تلاميذه ومستمعيه، فما زاد على أن قال: أيها الإنسان، من أقامني عليكما قاضيا أو حسيبا؟!

وتعمدوا وهو في الهيكل أن يضطروه إلى موقف الحكم، أو إنكار الشريعة، فاقتحم عليه الكتبة والفريسيون دروسه ومعهم امرأة يدفعونها إلى وسط الحلقة، وراحوا يتصايحون: أيها المعلم، هذه امرأة أخذت وهي تزني، وقد أوصانا موسى أن نرجم الزانية، فماذا تقول أنت؟

ماذا يقول هو؟ ما بالهم يسألونه ويستأذنونه، وهو لا يملك أن يمنعهم، لو ذهبوا بها إلى قضاتها؟ إن الشرك مكشوف على وجه الأرض، وليس منه مخرج فيما حسبوا وخمنوا، إن قال: ارجموها! فذلك حق الولاية يدعيه، وإن قال: أطلقوها! فتلك شريعة موسى ينكرها في قلب الهيكل، فكيف الخلاص من جانبي الشرك، ولو أنه مكشوف معروف.

سبق إلى ظنهم كل خاطر إلا أنه ينتهي من القضية إلى حل لا يدعي به السلطة، ولا ينكرها، ولا ينساق فيه إلى مجاملة الرياء بالدين والكبرياء بالتقوى، ولبثوا يترقبون، ولا يدرون كيف يخرج من المأزق الذي دفعوه إليه، وهو يستمع إليهم ويخط بأصبعه على الأرض، حتى فرغوا من جلبتهم وسؤالهم، فوقف قائما ورد عليهم رياءهم في وجوههم، وكسر الشرك بقدميه من كلا طرفيه، وهو يقول لهم: «من كان منكم بلا خطيئة فليتقدم وليرمها بحجر.»

لا ينقض شريعة موسى، ولا يدعي تنفيذها، ولا يجامل رياءهم، بل يدعهم هم يحاولون الخلاص من الحيرة والخجل بالروغان!

Halaman tidak diketahui