Kehidupan Intelektual di Dunia Baru
حياة الفكر في العالم الجديد
Genre-genre
لكن خير الوسائل جميعا في تثبيت الاعتقاد، هي الوسيلة العلمية التي تجعل صواب ما نعتقد في صوابه أمرا يشاهده كل من أراد أن يشاهد، فليس الأمر هنا حجاجا عقليا أو لفظيا بين جماعة من الناس فيما بينهم، كما هي الحال حين يناقش الفلاسفة الميتافيزيقيون بعضهم بعضا، بل الأمر هنا مرجعه التجارب العملية التي تجعل الفكر عملا كما ينبغي له أن يكون، الطريقة العلمية وحدها هي التي تخرج بالفكرة من مجرد كونها اعتقادا ذاتيا عند أحد الأفراد، لتجعلها حقا عاما للناس أجمعين، كل الطرائق السالف ذكرها «التشبث» و«الاستناد إلى السلطان » و«الحجاج النظري»؛ كل هذه طرائق تحصر الحق في مكان معين أو زمان معين أو جماعة معينة، لكننا إذا أردنا له أن يجاوز هذه الحدود ليكون عاما شاملا، لم يكن لنا إلى ذلك وسيلة سوى اصطناع المنهج العلمي، فلن تكون الفكرة واضحة إلا إذا استطاع أكثر من فرد واحد تحويلها إلى عمل، بحيث يأتي تطبيقها في كل حالة على صورة واحدة، فعندئذ يكون لها معنى واحد عند الجميع، ولا يتغير معناها بتغير الأفراد أو الشعوب أو بتغير مكانها أو زمانها، هكذا يتفاهم العلماء المشتغلون في معمل واحد بعضهم مع بعض؛ إذ يجتمعون جميعا في فهم الفكرة على طريقة تطبيقها، وهنا يقول «بيرس»: لو استطعنا أن ننشئ «مجتمعا معمليا» - أي مجتمعا يقوم في التفاهم على نفس المنهج الذي يقوم عليه العلماء في المعمل - لانتهينا إلى معنى «الحق» في غير تنازع أو خلاف.
الفصل الخامس
غد بعد أمس
(1) «وليم جيمس» ومعيار النجاح
الانتقال من الفلسفة التقليدية - واقعية كانت أو مثالية - إلى الفلسفة البراجماتية هو انتقال من أمس إلى الغد، فبعد أن كان أساس الحكم على قول ما بالصدق أو بالبطلان هو الرجوع إلى الأصل الذي بعث على تقرير ما يقرره القول، أصبح الأساس هو النتائج التي تترتب عليه، فالكلام صواب أو خطأ، والنظرية من نظريات العلوم حق أو باطل، بمقدار ما يعين ذلك الكلام أو هذه النظرية على ترسم طريقنا في الحياة العملية، لا بمقدار تطابقه مع الواقعة التي يصورها، أو اتساقه مع غيره من الأفكار، وفي بيان الفرق بين نظرة الفلسفة التقليدية من جهة، ونظرة الفلسفة البراجماتية من جهة أخرى، لا تمييز في ذلك بين الشعبتين الرئيسيتين اللتين منهما تتكون الفلسفة التقليدية على اختلاف ألوانها، وهما الواقعية أو التجريبية، ثم المثالية، فالقول صادق عند الأولى إذا طابق العالم الخارجي على نحو ما، أي إنه نسخة من أصل موجود خارج الإنسان، وسواء جاءت هذه النسخة طبق أصلها - كما تذهب الواقعية الساذجة - أو أصابها تحوير في العقل - كما تذهب الواقعية النقدية - فأساس الحكم على كل حال هو علاقة بين الفكرة التي نشأت عند الشخص العارف وبين الشيء المعروف الذي هو حقيقة قائمة بذاتها مستقلة بوجودها - سواء صادفه العقل الذي يعرفه أو لم يصادفه - وإذن فتحقيق القول إنما يكون «بالرجوع» إلى ذلك الأصل الخارجي، وأما المثالية على اختلاف مذاهبها، فهي وإن خالفت الواقعية في رأيها بوجود الشيء المعروف خارج الذات العارفة، بأن جعلت وجود الشيء قائما في العقل الذي يعرفه، إلا أنها - كالواقعية - تحقق صدق الفكرة المراد تحقيقها «بالرجوع» إلى شيء سابق على وجودها، وهو في هذه الحالة مجموع الأفكار الأخرى، لترى هل هنالك بينها وبين تلك الأفكار اتساق فنقبلها، أو تناقض فنرفضها.
وجاءت البراجماتية لتغير وجهة النظر من أساسها، فبدل الالتفات إلى ما «كان» عند تحقيقنا لفكرة ما، نلتفت إلى ما «سيكون»، بدل الالتفات إلى الماضي السابق على نشأة الفكرة المراد تحقيقها، نلتفت إلى المستقبل الذي سيعقب وجود الفكرة ويتلوها؛ فهي صواب إن كانت نتائجها مما يسعف ظروف حياتنا العملية ويفيدنا في حل مشكلاتنا، وهي خطأ إذا لم يكن لها مثل هذا الأثر، هذه اللفتة الجديدة عنصر مشترك بين البراجماتيين جميعا، ثم يعودون فيختلفون في تفصيلات أخرى تميز أحدهم من الآخر، وقد أسلفنا لك القول - في الفصل السابق - عن «بيرس» الذي شق للناس هذا الطريق الجديد في منطق التفكير، وسنحدثك في هذا الفصل عن زعيمين آخرين سارا في هذا الاتجاه مع تعديل هنا وتبديل هناك، وهما «جيمس» و«ديوي».
و«وليم جيمس» بين هؤلاء جميعا هو الذي ينظر إليه العالم على أنه نموذج الفيلسوف الأمريكي، وعنوان الفلسفة الأمريكية؛ فهو أكثر منهم شيوعا، وأوسع منهم في سائر أنحاء العالم سيرورة وذيوعا، ترجمت كتبه - كلها أو بعضها - إلى كل لغات العالم المتحضر، ويرجع ذلك إلى عوامل عدة؛ فقد جاءت حياته (1842-1910م) في الفترة التي استكملت فيها الولايات المتحدة استقلالها الفكري، ولم تعد تابعة من توابع الفكر الأوروبي، أضف إلى ذلك ما أتيح له من إلمام بكثير من اللغات الأوروبية، ومن ثراء يمكنه من التجوال والسفر ، فلبث يتنقل في ربوع أوروبا يحاضر، ويخالط الناس فيجذبهم بحديثه وخفة روحه، ولا شك أن شيوع الفكرة الجديدة مرهون إلى حد كبير بشخصية قائلها، فها هو ذا زميله «بيرس» يدعو إلى الفكرة ذاتها، فلا يكاد يلتفت إليه أحد من أبناء وطنه أنفسهم، لطريقة اختياره لألفاظه وعباراته التي كان يتعمد فيها ألا تجري مع مألوف الناس في حديثهم اليومي، ولصرامة شخصيته التي لم تجعل طريق الاتصال بينه وبين غيره سهلا ميسرا، فإذا أضفت إلى ذلك في «جيمس» أن فكرة «البراجماتية» التي كان يتحدث فيها ويكتب ويحاضر، كانت في ذاتها جديرة بالاهتمام لخطورتها، أدركت كم صادف عند أصحاب الفكر في العالم كله من نجاح وتوفيق.
وقد عرف «جيمس» أول ما عرف باشتغاله بعلم النفس، وقد أخرج فيه كتابه العظيم «أصول علم النفس» من جزءين كبيرين، فكان نقطة تحول وانتقال في هذا العلم من عصر إلى عصر، فعلم النفس قبل كتابه كان محوره ترابط الإحساسات والأفكار ترابطا آليا، قائما على أساس من فلسفة التجريبيين الإنجليز، وعلى رأسهم «لوك» و«هيوم»، فالفكر عند هؤلاء مصدره الانطباعات الحسية، وهذه الانطباعات تأتي أشتاتا فرادى، ثم تتلاقى في الداخل أفكارا، لكن كيف تتلاقى؟ تتلاقى بالتداعي بعضها مع بعض، فهذه الفكرة أو هذا الانطباع الحسي يدعو زميله لما بينهما من شبه أو تضاد أو غير ذلك من قوانين الترابط التي فصلوا القول فيها، والتداعي أو الترابط يحدث من تلقاء نفسه، كما يحدث التجاذب بين الذرات المادية مثلا، فكأنما العقل قابل لا فاعلية فيه، ساكن بغير حركة، أو كأنه «لوحة بيضاء» - كما قال «لوك» - ترتسم عليه الانطباعات وتتجاذب، ولا حيلة له فيما يتلقاه إلا أن يسجله على صفحته تلك، أما بعد كتاب «جيمس» فقد بدأ علم النفس عهدا جديدا؛ لأنه جعل العقل أداة فعالة نشيطة، ومهمته هي كمهمة أي عضو آخر من أعضاء الكائن العضوي الحي، وهي أن يكون أداة للمواءمة بين الكائن وبيئته مواءمة تعين الكائن الحي على البقاء؛ فهو إذن أداة بيولوجية تطورية، لا تنفك تواجه الجديد من مواقف البيئة الخارجية وظروفها، فترد عليها بما يحفظ لصاحبها حسن البقاء ودوامه، وبهذا التفسير يكون «العقل» كلمة نسمي بها نمطا معينا من السلوك الحي النشيط المفيد، لا مجرد مرآة قابلة تمر أمامها أشياء الطبيعة وحوادثها، فترتسم على صفحتها كما ظن السابقون، ولعلك تلاحظ أن هذا التفسير للعقل يزيل الحاجز التقليدي بين العقل والجسم؛ لأنه إذا كان العقل ضربا من السلوك، فهذا السلوك هو نفسه الجسم السالك الفاعل المتصرف، وليس هنالك آمر ومأمور، وحاكم ومحكوم، بل هنالك كائن عضوي واحد يسلك في بيئته على نحو معين، وإذا كان هذا هكذا فقد تحطمت الثنائية التي شقت الإنسان - والكون بصفة عامة - جانبين: فعقل هنا وجسم هناك، أو نفس هنا ومادة هناك، تلك الثنائية التي سادت الفلسفة الحديثة كلها منذ «ديكارت»، وها هنا بذرة المذهب الفلسفي عند وليم جيمس، فعلى الرغم من أنه حاول في كتابه «أصول علم النفس» ألا يخلط العلم بالفلسفة، إلا أنه - بطبيعة الحال - لم يستطع تخليص ذلك العلم من وجهة نظره العامة التي كانت أساس علم النفس عنده، وستكون أساس فلسفته أيضا.
والمحور الرئيسي في فلسفة «جيمس» هو رأيه في «المعنى» - معنى اللفظة أو معنى العبارة - فماذا «نعني» بهذه الكلمة أو تلك، وبهذه العبارة أو تلك؟ إن لكل كلمة معناها الخاص، وكذلك لكل عبارة، لكن ما هي الصفة المشتركة بين كل ذي معنى، بحيث نستطيع أن نقول عن تلك الصفة المشتركة أنها «المعنى» الذي يجعل الكلمة المعينة أو العبارة المعينة ذات مدلول، ونظريته في «المعنى» لا تختلف في جوهرها عن نظرية «بيرس» التي أسلفنا لك القول فيها - في الفصل السابق - فهما معا يذهبان إلى أن «معنى» فكرة من الأفكار، المعنى الذي يجعل الفكرة مفهومة وذات دلالة، هو النتائج العملية التي تترتب على الفكرة في خبراتنا، فإذا قلت - مثلا: «قد انطفأ غليوني» كان «معنى» ذلك أن «أتوقع» نتائج معينة في خبرتي، كأن أتوقع ألا أحس طعم التبغ إذا جذبت أنفاسي خلالها، وألا يحترق إصبعي إذا وضعته في وعائها، وهكذا وهكذا ، فهذه كلها خبرات ستكون مختلفة في حالة انطفاء الغليون عنها في حالة اشتعاله، وقد لا يكون في هذا الكلام جديد بالنسبة إلى طريقة فهمنا لكثير من عباراتنا في الحياة اليومية وفي معمل العلوم الطبيعية على السواء، ففي هذين المجالين ننصرف - في كثير من الحالات - إلى النتائج المترتبة على القول لنفهم معناه، لكن الجديد فيه هو القول بأنه لا معنى للعبارة إلا هذه النتائج، هذا جديد، بل يستوقف النظر ويستثير الدهشة لو أمعنت في مضمونه، فأنت في حياتك اليومية، حتى إن فهمت العبارة على أساس نتائجها، قد تظن أن للعبارة معنى غير هذه النتائج العملية كأنما النتائج العملية تأتي عرضا، وقد لا تأتي ويظل للجملة معنى، فكم ألف ألف عبارة نقولها، ونتوهم أن قد فهمنا لها معنى، فإذا سئلنا عن النتائج العملية التي تترتب عليها في خبراتنا لم نجد شيئا، ومع ذلك نصر على أنها ذات معنى مفهوم، لكن هذه النظرية الجديدة في المعنى، نظرية «بيرس» و«جيمس» على السواء، تذهب إلى أنه لا معنى للعبارة إلا نتائجها العملية في خبراتنا البشرية، وإذا لم يكن ثمة في خبراتنا من نتائج تترتب على جملة معينة، لم يكن لتلك الجملة معنى، بل كانت لغوا فارغا لا يدل على شيء، وإن خيل إلينا غير ذلك.
هذه النظرية في «المعنى» تقضي على الخلافات اللفظية التي كثيرا ما تنشب بين المختلفين بغير داع يدعو إليها، إما لأن ما يختلفان عليه ليس بذي معنى على الإطلاق، وإما لأنهما يعنيان شيئا واحدا، وهما لا يعلمان، بحكم أن كلا منهما يقول كلاما غير الكلام الذي يقوله زميله، فيتوهمان أن اختلاف اللفظ يستتبع حتما اختلاف المعنى، مع أنه قد يكون المعنى واحدا في القولين، إذا كانت نتائج القولين واحدة، فإذا قلت مثلا عن منضدة إن طولها متران، وقال زميلي عنها إن طولها ليس مترين على وجه الدقة، لكنها تقرب من المترين قربا لا تستطيع أدوات القياس التي بين أيدينا أن تكشف عنه، فهذان قولان ظاهرهما اختلاف، لكن حقيقتهما اتفاق في المعنى؛ لأنه لا اختلاف من حيث النتائج العملية بين القول الأول والقول الثاني؛ فأنا وزميلي على حد سواء سنستخدم أدوات القياس التي بين أيدينا، وسيجد كلانا أن ما يعمله الأول هو نفسه ما يعمله الثاني، وليس في خبرة زميلي نتيجة واحدة سيختلف بها عن النتائج التي ستقع لي في خبرتي بسبب اختلاف قوله عن قولي في طول المنضدة، فلو اشترى لها غطاء، واشتريت لها غطاء، فسيكون ما يعمله - من حيث طول الغطاء - مطابقا لما أعمله، وهكذا، وإذن فقد انحسم الخلاف بيني وبينه في النتائج العملية؛ وبالتالي قد انحسم الخلاف بيني وبينه في معنى ما قاله وما قلته، على الرغم مما كان ظاهرا بين القولين من اختلاف.
Halaman tidak diketahui