بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. قال الشيخ، الإمام، قدوة الإسلام، وواضح الدلائل، الإمام، أبو بكر الطرطوشي، رحمه الله تعالى ورضي عنه: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، ورسول رب العالمين. هذا كتاب أردنا أن نذكر فيه جُمَلا من بدع الأمور ومحدثاتها، التي ليس لها أصل في كتاب الله، ولا سنة، ولا إجماع، ولا غيره، فألفيت ذلك ينقسم إلى قسمين: قسم يعرفه الخاصة والعامة أنها بدعة محدثة؛ إما محرمة، وإما مكروهة. وقسم يظنه معظمهم - إلا من عصم الله - عبادات، وقربات، وطاعات، وسننا. فأما القسم الأول؛ فلم نتعرض لذكره؛ إذ كُفينا مؤنة الكلام فيه؛ لاعتراف فاعله أنه ليس من الدين.

1 / 21

وأما الثاني؛ فهو الذي قصدنا جمعه، وإيقاف المسلمين على فساده ووبال عاقبته. أعلم أن ما حدث في سائر أقطار بلاد أهل الإسلام من هذه المنكرات والبدع لا مطمع لأحد في حصرها؛ لأنها خطأ وباطل، والخطأ لا تنحصر سبله، ولا تتحصل طرقه؛ فاخط كما شئت! وإنما الذي تنحصر مداركه وتنضبط مآخذه؛ فهو الحق؛ لأنه أمر واحد مقصود، يمكن إعمال الفكر والخواطر في استخراجه. وما مثل هذا إلا كالرامي للهدف؛ فإن طرق الإصابة تنحصر وتتحصل من إحكام الآلات، وأسباب النزع، وتسديد السهم. فأما من أراد أن يخطئ الهدف؛ فجهات الأخطاء لا تنحصر ولا تنضبط؛ إلا أن نذكر من ذلك حسب الإمكان. وأحصر ذلك في أربعة أبواب: الباب الأول: فيما انطوى عليه الكتاب العزيز من الأمور التي ظاهرها سِلْمٌ جرَّت إلى هُلْكٍ. والباب الثاني: فيما اشتملت عليه السنة من النهي عن محدثات الأمور. والباب الثالث: في أساليب الصحابة في كيفية ضبطهم للقانون الذي به تُحفظ قواعد الدين وتموت البدع. والباب الرابع: في نقل ما حدث من ذلك في الإسلام، وتنصيص العلماء على تحريمها وكراهتها.

1 / 22

الباب الأول فيما انطوى عليه الكتاب العزيز من الأمور التي ظاهرها سِلْمٌ جرَّت إلى هُلْكٍ * فأما الباب الأول؛ فيكفي الأمة منه قصة أصحاب السبت التي حكاها الله تعالى في كتابه. وكان مالك بن أنس يحتج بها على من خالفه في مسألة الذرائع: قال الله تعالى: ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ﴾ ... إلى قوله: ﴿كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ . وذلك أن الله تعالى حرَّم الصيد على اليهود يوم السبت، وأطلقه لهم في سائر الأيام، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا - يعني: في مشارع

1 / 23

المياه إلى أبواب بيوتهم، وقيل: شوارع ظاهرة على الماء كثيرة - ولا تأتيهم في سائر الأيام، فعمد رجال منهم يوم الجمعة، فحفروا الأنهار، ووضعوا آلات الصيد، فدخل الحيتان فيها، فأخذوها يوم الأحد، وكان يوما يجوز فيه الصيد ... إلى أن فشا ذلك فيهم، فذمَّهم الله تعالى، ومسخهم قردة وخنازير. وقال ابن زيد: " وأول من أخذ منهم رجل حوتا في يوم الأحد، فشواه، فوجد جاره ريح الحوت، فقال له: إني أرى الله سيعذبك. فلما لم يعجل عليه بالعذاب؛ سار معه، فأخذ في السبت الآخر اثنان، فلما لم يعاجلهما العذاب؛ تتابعوا فيه، فأخذوا وأكلوا، وكانوا نحوا من سبعين ألفا في قرية يقال لها: أيلة، بين مدين والطور. فصارت القرية أثلاثا: ثلثا نهوا - وكانوا اثني عشر ألفا - وثلثا قالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾، وثلثا هم أصحاب الخطيئة، فلما لم ينتهوا؛ قال المسلمون: لا نساكنكم. فقسموا القرية بجدار: للمسلمين باب، وللمعتدين باب، فلعنهم داود، فأصبح الناهون يوما في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس لشأنا، فنظروا على

1 / 24

الجدار، فإذا هم قردة، فقالوا: أي عباد الله! قرودا - والله - تعاوي! ففتحوا الباب، فعرفت القردة أنسابها من الإنس، ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة، فجعلت القردة تأتي أنسابها من الإنس، فتشم ثيابه وتبكي، فيقول: ألم ننهكم؟ ! فتقول برأسها: نعم ". قال قتادة: " صار شبابهم قرودا، والشيوخ خنازير، فما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم ". واختلف العلماء في الفرقة الذين قالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ﴾؛ أكانت من الناجية أم من الهالكة؟ فأما ابن عباس؛ فقال: " هم ثلاث فرق: الواعظة، والموعوظة، والذين قالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا﴾، فالواعظة نجوا، والموعوظة هلكوا، ولا أرى الآخرين ذُكروا، فيا ليت شعري! ما فعل بهم ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها شيئا؟ ! ". قال عكرمة: " فقلت له: جعلني الله فداك! ألا تراهم كرهوا ما هم عليه، وخالفوهم، فقالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ﴾، فلم أزل به حتى عرفته أنهم نجوا، فكساني حلة ". وأيضا فإن الواعظين قالوا لهم: انتهوا عن هذا العمل السيئ قبل أن ينزل بكم العذاب؛ فإنا قد علمنا أن الله منزل بكم بأسه إن لم تنتهوا. فقالت لهؤلاء الفرقة الأخرى: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ إذ علمتم أن الله معذبهم عذابا شديدا، فلا تعظوهم؛ فإن الله مهلكهم. وقال جماعة من العلماء: بل هذا الفريق من الهالكين؛ لأنهم منعوا

1 / 25