وحينئذ كان بركان غيظي قد انفجر، فنهضت من مكاني إليه كأني أهم أن أضربه وقلت له: نعم إنه منزل الأطهار وأنت تدنسه، فاسترد كل أقوالك.
فوقف قائلا لي: ما شأنك أنت؟ - إنك تدنس هذا المقام ومن فيه.
وحينئذ اعترض المسيو بوشار بيننا، وتينادريه أجاب: ليس في هذا المكان نقتتل، عين مكانا للمبارزة وشهودك. - بل الآن أو ترجع عن قولك.
وعند ذلك غشي الاكفهرار وجه إيفون، واستلقت على المقعد مغمى عليها، فتركت فكتور ودنوت منها وجعلت أعالجها ووافى البقية يساعدونني، وبعد هنيهة أفاقت فأخذناها إلى سريرها، أما فكتور فاعتذر وتأسف على ما جرى، ثم مضى هو ورفيقه بوشار، وبقيت جالسا إلى سرير إيفون صامتا وهي مضطجعة لا تطيق التكلم، وفانتين جالسة عند قدميها تنتظر إشارة منها بأمر، وبعد برهة أمرتها أن تعد لها بعض اللبن، ثم التفتت إلي وقالت: موريس!
فخفق فؤادي لهذا النداء الذي رن فيه رنة القيثار السماوي، فأجبت: مولاتي. - إنك الرجل الوحيد الذي يحبني، كما أن فانتين المرأة الوحيدة التي تحبني كنفسها. - فانتين تحبك كنفسها، وأنا كم تظنين أني أحبك؟ - أعلم أنك تحبني كثيرا يا موريس، تحبني أكثر من جميع الرجال الذين عرفتهم. - أحبك أكثر من نفسي ... - لا تتسرع يا موريس لئلا تندم. - بل أعبدك. - لا تبالغ فتكذب. - آه يا إيفون لو تعلمين متى أحببتك، وكم أحببتك وماذا قاسيت في حبك. - علمت أنك أحببتني حبا حقيقيا، ولكن قل لي: هل تعرف حقيقة أمري؟ - أعرف أنك محظية الأمير ... - ... لا زوجته. - نعم. - إذن قد برهنت لي على حبك الصادق ثلاث مرات، والثلاثة عدد كاف للتوكيد، وأما غيرك ممن يدعون حبي حتى الأمير نفسه، فلم يوردوا برهانا واحدا. - بل إن كل لحظة من حياتي بعد إذ عرفتك هي دليل واضح على حبي لك يا إيفون، ولسوء حظي لم تطلعي على هذه الأدلة. - لا، لا تدري أنت أي البراهين أقنعتني بحبك، فاسمع أذكرك منها البرهان الأول في الجيزة ... - لا تذكري تلك الحادثة يا إيفون، فإن المروءة شيمة كل من يدعي الرجولية. - أصغ، لا تقاطعني، إنك لم تدرك ما عنيت، لا أحسب دفاعك عني برهانا على حبك لي؛ لأن دفاعا كهذا شيمة كل ذي مروءة ينبض في عروقه دم شريف كما قلت، ولكن قولك لذلك الوغد: «أرى أنها شريفة النفس»، هو البرهان الذي يقنعني، قد يمكن أن أنسى تلك الحادثة، ولكن هذه العبارة تظل تلوح في ضميري حتى متى صرت في عالم الأرواح؛ لأنها شهادة لنفسي الخالدة لا لجسدي الفاني، والله يشهد أني شريفة الروح. والبرهان الثاني في نيوبار إذ لم تستنكف أن تعرفني بأنسبائك مع علمك أني في عرف الناس امرأة ساقطة، والبرهان الثالث الآن إذ قلت لفكتور عن منزلي: «إنه منزل الأطهار وإنه يدنسه.»
سمعت ذلك الكلام الشريف مطرقا فقلت لها: إنك يا إيفون جوهر حياتي فأجدر بأهم جزء في شخصيتي أن يكون شريفا.
فابتسمت ونظرت إلي نظرة جسمت الرجاء في فؤادي، واسترسلت في كلامها: يعدني الناس ساقطة يا موريس ... - إنهم يفترون عليك. - أنت وحدك تعتقد كذلك؛ ولكن جمهورهم على أن المرأة المبتذلة الساقطة دنسة الجسد والنفس، وهب أنها جمعت كل الفضائل فلا يغتفرون لها ذلك الإثم لأجل فضائلها.
إنهم جائرون؛ لأني لا أرى فرقا بين المبتذلة والمحصنة التي تأثم نفس الإثم فضلا عن سواه، ومع ذلك يتسامحون لها.
بل هناك فرق عظيم وهو أن المحصنة تأثمه مختبئة وراء رجل تشركه بأذى إثمها، ومع ذلك يتعامى الناس عنه، وأما المبتذلة فتأثمه لاجئة إلى حريتها الشخصية، ولا يؤذي بإثمها سواها، ومع ذلك يرجمونها كأنهم بلا خطية، ويعاقبونها كأنها لهم أذنبت، كل أصدقائي يكرمونني ويعظمونني ويبذلون الغالي والرخيص لي ويتمنون رضاي، يفعلون ذلك في منزلي أو في خلوتي معهم، ولكنهم يأبونه علي في مجالسهم الخصوصية، ويستنكفون دخولي إلى منازلهم، يقبلون الأرض عند قدمي في غرفتي، ولكنهم ينكرونني في السبيل، يأكلون على مائدتي ولكنهم لا يقبلونني في حفلاتهم، وهو ذا الأمير وهو يساكنني استنكف أن يصطحبني إلى المرقص الخديوي، يتوددون إلي ويتغزلون بجمالي ويطنبون بمدح لطفي ويغالون في الثناء على دماثة خلقي، ولكنهم كلمة واحدة لا يقولون على طهارة نفسي، بل عند أقل خلاف بيني وبينهم يطعنون فؤادي طعنات نجلاء بنبال التعبير، كما فعل فكتور اليوم، لماذا يفعلون كذلك؟
لأنهم يحتقرون شخصيتي الروحية، ولا يكرمون شخصيتي الحيوانية؛ إلا لأنهم يحبون أنفسهم؛ فلأجل شهوتهم يتوددون إلي لا لأجلي، فمتى لا يكونون في حاجة إلى رضاي ينبذوني نبذ النواة، ولو كانوا يحبونني الحب الحقيقي لكانوا يذكرون لي محامدي الكثيرة ويمحون لي هفوة واحدة جرني إليها خداع الرجل، ودفعني إليها ضعف البشرية، ولما كانوا يستنكفون أن يترحبوا بي في منازلهم ويذكروا مآثري في حفلاتهم ومجالسهم.
Halaman tidak diketahui