ولكن السؤال هنا: لماذا نجحت الوجودية في فرنسا بل أوروبا؟
اعتقادي أن نجاحها يرجع أولا إلى التفكير المادي الذي عم أوروبا وجعل الأوربيين ينفرون من الغيبيات بأنواعها جميعا. ويرجع ثانيا إلى إحساس الزهو الذي تضفيه الوجودية على المؤمن بها، من حيث إنه مستقل في هذا الكون له حق الاختيار دون أية قوة أخرى. ويرجع ثالثا إلى اليسر البديع في أسلوب سارتر الذي يجعل الأستاذ والطالب والحوذي والسمكري يفهمونه بلا استغلاق، ولعل الوجودية أول ما فهموه من أنواع الرطانة الفلسفية، وهم بهذا الفهم سعداء مزهوون. ويرجع هذا النجاح أخيرا إلى أنها تناقض الأخلاق الاشتراكية التي تقول، أول ما تقول، بأن الإنسان قد تكون بالمجتمع ثم هو يجب أن يكون المجتمع الأمثل.
ومعنى هذا أنه أصبح للوجودية معنى سياسي، حزبي؛ فهي لذلك تتسلسل إلى المنابر ويأخذها الخطباء بالقدح والمدح وتذكر كلماتها وعقائدها أيام الانتخابات البرلمانية؛ ولذلك هي أكثر من «فلسفة»، هي كفاح، هي سياسة، هي حزبية. •••
ولو كنت أخاطب الشبان وأنشد لهم القوة والمجد لدعوتهم إلى الوجودية، وعندئذ أكون معتمدا على ما يسميه القانونيون «أكذوبة شرعية»؛ أي أكذوبة أهدف منها إلى أن أجعل الشاب يحس أنه مسئول، وأنه يستطيع أن يتسلط على القدر، ويصوغ حياته كما يشاء، وأن عليه أن يأخذ حياته بالجد والبصر؛ إذ هو مستقل، وهو حر، وهو قادر، إذا شاء أن يصل إلى أعلى قمة في المجتمع الذي يعيش فيه.
وحين أقول هذا القول أعرف أني، من حيث الفلسفة والسيكلوجية والاجتماع كاذب؛ إذ إن الإنسان ليس حرا وأن الحقيقة أن المجتمع يصوغه.
وموقفي هنا لا يختلف عن موقف القضاء، فإننا نحاكم المجرمين «كما لو كانوا» مسئولين ليس للمجتمع تأثير عليهم، وعلى هذا الأساس نعاقبهم.
وهكذا الشأن أيضا في الأخلاق يجب أن نقول إن كل إنسان مسئول عن أخلاقه، ونعامله كما لو كان حرا قد اختار هذه الأخلاق، وإذن لا تزيد الوجودية على أن تكون مذهبا ارتقائيا في الأخلاق ووسيلة إلى بعث النشاط والحيوية والجد. •••
سبق أن قلت إن «إلحاد» بول سارتر يعد نقطة بؤرية في فلسفته، ولكننا يجب أن نبين هنا أن هذا الإلحاد ليس هوى وليس طارئا؛ لأنه إنما يتفق ويتناسق مع فلسفته إذ هو يقول: إننا نوجد أولا ثم نتجوهر ثانيا.
أي: الوجود، الظاهر لنا، نعرفه أولا.
ثم الجوهر، أو الماهية، أو الأصل خلف الوجود، نعرفه ثانيا إذا استطعنا ذلك. وإذا عددنا أن الله هو أصل الكون فمحاولتنا لأن نعرفه يجب ألا تكون بداية البحث؛ لأن بداية البحث هو الوجود الظاهر وليست الماهية المستترة، بل ليست هناك عند سارتر ماهية لأي شيء، وإنما هناك وجود فقط. وقد نقول إنك تتجوهر بعد أربعين سنة، ولكن هذا المعنى مجازي هنا؛ لأننا نقصد منه أنك تتكامل وتصل إلى أقصى كفاءاتك وميزاتك.
Halaman tidak diketahui