وحزم رأيه، ثم حزم أمتعته، ورحل من ستراسبورج إلى باريس، وهناك عاد تلميذا وهو في الثالثة والثلاثين، والتحق بكلية الطب.
إنه حين يكون طبيبا يستطيع أن يرحل إلى أفريقيا وأن يعالج المرضى من الزنوج، حتى يعرفوا أن بين الأوروبيين من يواسي جراحهم، ويعالج أمراضهم كما عرفوا من آلاف الاستعماريين المجرمين.
وبعد أربع سنوات نال شهادة الطب فحزم رأيه وحزم أمتعته ورحل إلى «لامبارينيه» في سنغال الفرنسية، وهناك أسس مستشفى وأقام مع زوجته يخدمان الزنوج نحو أربعين سنة عاد بعدها في سنة 1949 إلى قريته التي عرفها وهو صبي بالقرب من ستراسبورج، عاد وهو أعمى.
وإلى هنا نستطيع أن نقتنع بأننا عرفنا إنسانا بارا بالإنسانية، ولكن شفيتزر، كما كان رجل عمل وكفاح، كان مفكرا عميقا يبحث ويستقصي ويحاول أن يهتدي إلى يقين، ومن هنا مؤلفاته العديدة، فقد ألف عن الموسيقا، ثم ألف عن المسيح وحواري المسيح بولس. ولا بد أنك، أيها القارئ، ستقول: إن ها هنا إنسانا مسيحيا قد درس الإنجيل، وعمل بتعاليم المسيح. وهذا حق، ولكنه ليس كل الحق؛ ذلك أن شفيتزر ألف كتابا عن المسيح الذي أحبه وعمل بتعاليمه، ولكنه عالج حياته بمشرط فرويد بما لا يرضى المسيحيين. وقد قرأت الكتاب وأحسست وأنا في الفصول الأخيرة أن الحلوى التي كنت ألوكها بلساني قد استحالت إلى علقم مر لا أسيغه ولا أطيقه، ولكنه - أي شفيتزر - يقول وكأنه يحس برعشة الاشمئزاز الذي أحدثه تحليله السيكلوجي القاسي: وماذا علينا أن نؤمن بالفلسفة العظيمة حتى ولو كان داعيتها؟ إنها مأساة، وإننا نحن البشر لا نطيق كل الحق، وإذن ما هو اليقين الذي يستند إليه شفيتزر؟ ما هو اليقين الذي يحمله على أن يترك الثراء والمجد والراحة والمدنية ويرحل إلى أفريقيا، ويقضي هناك أحسن سني عمره في خدمة الزنوج بعد أن يستعد لخدمتهم بالدراسة أربع سنوات في جامعة باريس؟
هذا اليقين هو احترام الحياة، إننا يجب أن نحترم الحياة كائنة ما كانت، ولا نقتل نملة إلا إذا حتمت الضرورة ذلك، ألسنا نحن الأحياء جميعا من العشب الذي ندوسه إلى الجواد الذي نركبه، إلى الكلب الذي يرافقنا إلى الشجرة الخضراء؟ ألسنا جميعا ننتمي إلى أصل واحد ونسير في موكب التطور نحو المستقبل؟ ثم احترام الحياة هو مفتاح يهيئ لنا التفكير السليم في تطور المجتمع البشري. فهل نقنع من شفيتزر بذلك؟ إنه يستطيع أن يقول: انظروا إلى حياتي.
لقد أحببت شفيتزر على الرغم من العلقم الذي ملأ به فمي، وعلى الرغم من السحب الباهرة الناصعة التي أحالها إلى قتام أسود، ورضيت وأنا كاره أن أستمع بعقلي إلى أقواله، كما هدأت نفسي إلى عجزي عن الرد عليه، وتقبلت دعوته إلى الحياة في ترحيب وسرور؛ لأن دراستي للتطور قد جعلتني على إحساس عميق بوحدة الحياة نباتا وحيوانا وإنسانا. ثم هو بعد كل هذا، لم يعترض بكلمة واحدة على سمو الأخلاق التي دعا إليها المسيح.
جون ديوي
فيلسوف العلم
كنت أتحدث ذات مرة مع الدكتور كليلاند مدير الجامعة الأمريكية بالقاهرة عن مركب أوديب أو مركب النقص لا أدري، فأنصت إلي ثم رفع عينيه في وجهي يسأل في خبث: هل هناك إحصاءات عن هذا الموضوع؟ وبهذا السؤال أفحمني وأضحكني معا.
فإني أحسست أن السؤال أمريكي، هو سؤال ينبع من الوسط الأمريكي الذي يعتمد على العلم، ويحيا على أساس المعارف العلمية، وهو التجربة، والإحصاء يقوم في علم الاجتماع مقام التجربة في الطبيعيات أو الكيمياء من العلوم المادية. ويجب أن نسلم بأن الكثير من معارفنا السيكلوجية لم يرتفع إلى مقام العلم، وقصارى ما نقول عن هذه المعارف: إنها «فروض» ننتفع بها في تفكيرنا، وإن هناك ما يرجح صحتها؛ لأننا حين نعمل بها نجد النتائج الحسنة، ولكنها ليست علما، وإنما العلم هو ما قام به بافلوف الذي جرب التجارب في الكلاب واستنتج النتائج، هو أيضا تلك الحقائق التي استطاع السيكلوجيون أن يستخرجوها بالإحصاء بالتجارب التي قاموا بها بين الطلبة أو العمال أو الأزواج أو المسجونين أو نحوهم. والعلم هو شيء جديد في عصرنا؛ إذ ليس هو محض التفكير والاستنتاج، وإنما هو التخيل أولا، ثم التجربة باليد، ثم التفسير بما يتلاءم مع النتائج من هذه التجربة.
Halaman tidak diketahui