وهنا العبرة لكل شاب، بل لكل فتاة، فإني لا أكاد أتخيل وسطا عائليا أسوأ من الوسط الذي نشأ فيه جوركي، ومع ذلك تغلب على هذا الوسط كما تغلب على مرضه؛ السل، مدة أربعين سنة، وامتلأ آمالا في المستقبل الاشتراكي. •••
ومع ذلك لا نستطيع أن ننكر تأثير الوسط أو قيمته في جوركي، أو بالأحرى في مؤلفاته، ونحتاج هنا إلى المقارنة بين تولستوي وجوركي، فإن الذي لا شك فيه أن نشأة المؤلف، ووسطه العائلي والاجتماعي يؤثران على موقفه من الدنيا وآرائه وفلسفته واتجاهاته، بل كذلك على أسلوب تعبيره وموضوع تفكيره، ولا يكاد أحدنا يتغير ويخالف هذه القاعدة إلا إذا عاش في وسط اجتماعي آخر يزعزع عاداته وعقائده السابقة.
فقد نشأ تولستوي على القمة، في أسرة يرأسها كونت. ونشأ جوركي في الهوة، في أسرة أكثر أفرادها من المجرمين؛ ولذلك نجد أن تولستوي على الرغم من يقظته وبغضه لمعيشة النبلاء مما يضارعونه في الجاه والثراء، لا يزال يحس إحساسهم، فهو لا يؤمن إيمانا كاملا بالاشتراكية، بل لا يؤمن بالحضارة الصناعية، وكل ما نجد فيه أنه إقطاعي رحيم بالفقراء الذين قلما يكتب عنهم؛ لأن أبطاله جميعهم تقريبا من النبلاء أمثاله أو من المتيسرين، والرحمة المسيحية عند علاج المساوئ الاجتماعية، وهو يؤمن بالدين، وإن كان يجحد الكنيسة.
العدل عند تولستوي هو الرحمة، وألا نقاوم الشر مقاومة إيجابية.
ولكن العدل عند جوركي هو الحق، ومذهبه مكافحة الشر بالسيف والنار.
وأبطال جوركي هم أولئك الذين أسقطهم الفقر على الحضيض، ولكنه يعمل على رفعهم بإيقاظهم، وإيجاد الوعي الإنساني في قلوبهم.
تولستوي لم يدع إلى الثورة، ولكنه أوجد السخط الذي هيأ لها.
وجوركي دعا إلى الثورة واشترك بنفسه في ثورة عام 1905، ثم عاد إلى روسيا بعد ثورة عام 1917، وخدمها في أمانة وحماسة إلى أن مات في عام 1936.
إن التصادم عند جوركي، بين واقع حياته وأماني نفسه، هو الذي ينعكس أثره في أدبه حين يصف لنا رجال قصصه، فيصف الإنسان بأنه بليد وخسيس وجاهل وراكد وأرعن ومغفل.
هذه هي الصفات التي رآها في الناس، في الواقع، ولكنه يعود فيثب من الواقعية إلى الرومانسية، فيقول لنا على لسان إبليس في قصة «الأعماق السفلى»:
Halaman tidak diketahui