وأنا أحاول هنا أن أروي للقارئ تاريخ حياته، ووصف مؤلفاته، كي يستخرج العبرة من هذا الوصف؛ لأني أعتقد أن عندنا في مصر من يخالف هذا الرأي، فيحكم بأن هافلوك لم يكن متمدنا وإنما كان متوحشا، وأنه لم يعش الحياة الصالحة، وإنما هو أفسد حياته بل حياة زوجته! والواقع أن شيئا من هذا الفساد قد وقع لزوجته، ولكن ليس هناك ما يدل على أن أسلوب الحياة الذي اتخذه هو الذي أدى إلى هذا الفساد، وإن كان هناك شبهات تبعث على هذا الظن.
وإذا أنت سألت عن هافلوك إليس في إحدى المكتبات بالقاهرة عرفت أنه معروف مشهور بمؤلفاته الجنسية، وهي نحو ستة مجلدات ضخمة هي أدب وعلم وفلسفة، تحس وأنت تقرؤها أن كاتبها رجل فن وعلم وفلسفة، وهو يكتب بأسلوب مكين قد أحكمت عباراته كما نقيت من الزوائد، وهو كثير الإشارة إلى أقوال الفلاسفة من الإغريق القدماء إلى الأمريكيين المحدثين. وهو لا يرتجل الفكرة ولا يلتزم مذهبا، وإنما يزن الآراء ويعرض لها في إسهاب شرحا ونقدا، ثم ينتهي إلى الخلاصة التي يستقر عليها ويدعو إليها. وهذه المجلدات الستة عن الشئون الجنسية هي أروع ما كتب عن هذا الموضوع في لغة من لغات العالم، وإنك لتعجب حين تقرأ له فصلا واحدا عن البغاء؛ إذ تدهش لما يروي لك عن تاريخه في الأمم القديمة والحديثة، وعن قيمته ومكانته من الحضارات المتعاقبة، وعن أقوال القديسين المسيحيين الذين أيدوه، وعن القوانين العصرية التي تناولته. وحبذا لو قرأ هذا الفصل ودرسه أولئك الذين عملوا لإلغاء البغاء في مصر، ولكن نكبة الساسة في مصر أنهم لا يدرسون الكتب الأوروبية المنيرة.
كان هافلوك إليس من الرواد الذين شقوا الطريق وبسطوا الآفاق لهذه الدراسات قبل فرويد، فإن نشاطه العلمي كان في ذروته فيما بين عامي 1890 و1920. وهناك فرق أصيل بينه وبين فرويد؛ ذلك أن هافلوك إليس كان يبحث الشئون الجنسية من حيث إنها نشاط سليم يتصل بالأصحاء من الناس، ويبحث أثرها في حياة الشبان العزب والمتزوجين، وفي الحياة العائلية وتربية الأطفال وملكاتها في الحضارة. أما فرويد فيبحث النشاط الجنسي من ناحية المرض لا الصحة.
وقد كان فيما بين عامي 1890 و1891 يرأس تحرير سلسلة من الكتب العلمية التي تتناول المجتمع بالبحث العلمي، وتضم مجلدات تبحث الإجرام، وأخرى تبحث المشكلة اليهودية، وأخرى تبحث الوراثة ... إلخ
كما أن له مؤلفات يكفي ذكر أسمائها كي نعرف أن موضوعاتها أدبية، مثل «رقص الحياة»، و«روح أوروبا».
وهو في كل ما يكتب يمتاز بالنضج والإحاطة والنزاهة؛ إذ هو لا ينتسب إلى حزب أو طائفة ولا يدافع عن مذهب، وإذا نحن اتهمناه بالغرض أو بشيء منه، فإن هذا الاتهام ينحصر في إكباره من شأن النظرية العلمية، وهو هنا يعذر فإنه عاش في أواخر القرن التاسع عشر وامتد نشاطه إلى الثلث الأول من القرن العشرين، وكان الإيمان بالحضارة والرقي يعتمد أكبر الاعتماد على العلم، فإن الأمم الأوروبية طوال القرن التاسع عشر كانت على اقتناع بأنها قد اهتدت عن طريق العلم إلى مفتاح يفتح لها جميع الأبواب المغلقة، وأن سعادة الإنسان وقوته وصحته وثقافته كلها ترتبط بالعلم. وقد نشأ طبيبا، ولكنه لم يمارس الطب؛ لأنه قنع بالتأليف وقضى معظم حياته وهو في فقر لم يشك منه. ولكن المتأمل لسيرة حياته التي كتبها بنفسه يحس الضيق الذي كان يعانيه، فإنه كان يسكن مسكنا وضيعا ويطبخ طعامه بنفسه؛ إذ لم يكن يكسب من قلمه ما يكفي لتناول طعامه في المطاعم أو يمكنه استخدام خادم. ولكنه في السنوات الأخيرة من عمره تمكن من الاتصال بإحدى الصحف الأمريكية التي كانت تستكتبه مقالا أسبوعيا عن شئون أوروبا، وقد صرح بأن الأجر الذي كان يتناوله عن هذه المقالات كان يزيد أضعافا على ما كان يحصل عليه من التأليف والصحافة معا في بريطانيا.
ومع أنه قد مات منذ أكثر من عشر سنوات فإن مؤلفاته ما تزال تقرأ وتجد الأنصار والخصوم لحيويتها، حتى لقد قرأت هذا الأسبوع إعلانا عن كتاب جديد ينشر له في الولايات المتحدة، ويقول الناشر إنه لم يسبق نشره.
وفي كل ما ذكرنا لا نجد شيئا فذا أو شاذا في حياة هافلوك إليس؛ إذ هو مؤلف أو صحفي مثل سائر المؤلفين أو الصحفيين، وإن كان يمتاز عنهم بأنه جاد مثابر نزيه مفكر متبصر، وليست هذه الصفات عامة بين من يؤلفون أو يكتبون للصحف، ولكن ميزته الأصلية أنه اتخذ أسلوبا معينا في عيشه لم يتخذه غيره، وهذا الأسلوب هو الذي حفزنا إلى كتابة هذا الفصل كي ننبه القارئ المصري إليه، ولسنا نشك أنه سوف يجد التقبيح والازدراء من تسعين في المائة من القراء كما قد يجد الاستحسان من عدد قليل، ولكن ليس هذا غرضنا إنما نحن نقصد إلى أن نوضح العوامل التي أدت إلى اتخاذ هذا الأسلوب وتقديره في الحضارة القائمة.
فقد عرف هافلوك إليس فتاة إنجليزية تدعى الآنسة «إديث ليز» قبل نحو ستين سنة، وكانت هذه الفتاة من أولئك الفتيات الجديدات اللائي كن يسمين في إنجلترا باسم المرأة الجديدة، وقد كن منذ عام 1890 أو قبل ذلك يدعون دعوات جريئة مثل التعليم الجامعي للمرأة، ومثل حقوق الانتخاب للمجالس النيابية، والمساواة الاقتصادية بين الجنسين، وتولي الوظائف العامة. وكانت إديث ليز أكثر إيمانا بهذه الحقوق وأكثر إسرافا في الدعوة إليها، وكانت سكرتيرة لأحد الأندية النسوية في لندن، وكانت تقول: إن البيت على حالته الحاضرة - أي حوالي سنة 1890 - هو طاحون تسخر فيه الزوجة، فتعمل طول نهارها وبعض ليلها، وهي مجهدة لا يتوافر لها الوقت للراحة أو الاستمتاع الاجتماعي أو الثقافي، وإن هذا الكد المستمر في البيت، من حيث الاشتغال بالطبخ والغسل والكنس، يمكن الاستغناء عنه بأن نتناول وجباتنا في المطاعم، وإنه يجب على كل امرأة أن تؤدي عملا اجتماعيا بأن تحترف حرفة تكسب منها كما يفعل الرجال؛ لأن الاحتراف هو تربية دائمة لها، وهو يكسبها المال الذي يرفعها إلى كرامة اقتصادية يحسها الزوج فيحترمها، وهي حين تحترف تحس مسئوليات كبيرة لم تكن لتحس بها لو أنها كانت قد قنعت بالنشاط المنزلي في الطبخ والغسل والكنس، وإن الحرفة هي الوسيلة لتكوين الشخصية، ولن تكون للمرأة شخصية إذا هي قنعت بأعمال البيت.
والحق أن هذه الآراء كانت عامة حوالي سنة 1890، ولكنها كانت آراء في الهواء؛ إذ لم تكن تجد ما يدعمها من النظام الاقتصادي السائد وقتئذ؛ لأن الرجال كانوا يستوعبون الأعمال، ولم يكن هناك غير عدد صغير جدا من النساء اللائي كن يعملن ويكسبن.
Halaman tidak diketahui