ومن أقواله في شيخوخته أيضا: «إني أمتاز بالخط الحسن في شيخوختي؛ لأني أجد في ذهني أفكارا، لو أني شئت أن أواليها حتى تنكشف لاحتجت إلى أن أعيش حياتي مرة أخرى.»
وكان يكتب يومياته، وكأنه يحاسب نفسه على درجات رقيه وبناء شخصيته يوما بعد يوم.
وكانت حياته خصبة بالحب، ولم يكن يعرف النسك أو التقشف، ولم تكن فترات اعتكافه عن رغبة في النسك، وإنما هي بعض المزاج العام في الفرحين، وكأنها ادخار للقوة للانتفاع بها أيام السرور.
وكانت اختباراته كثيرة واستمتاعاته الإحساسية شاملة، كما كانت ثقافته موسوعية لم يحصر ذهنه في تخصص. فقد أحس الحب الحناني وهو في التاسعة عشرة فألف قصة «آلام فرتر» ثم جحدها؛ لأنها تحفل بالحنان واليأس والضعف، وكان يقول إنه يخجل منها عندما أينعت شخصيته وأخذ وجدانه وتعقله مكان إحساسه وعاطفته. •••
بدأ جيته حياته الذهنية بتعلم القانون وتأليف قصة اليأس والموت في «آلام فرتر»، وانتهى في سني نضجه وإيناعه باتجاه إيجابي بنائي للحياة البشرية، فدعا إلى وحدة أوروبا. وألف قصيدة في مدح نابليون قال فيها: «إن الذي يقدر على كل شيء، يقدر أيضا على السلام.» ما أبدعه هنا! وكان يفكر في قناة السويس وقناة بناما، ويشتهي أن يعيش خمسين سنة أخرى كي يراهما محفورتين مسلوكتين؛ ذلك أنه اتجه الوجهة العالمية فأصبح يقول، كما كان يقول شيلر: «وطني هو العالم»؛ ولذلك صار يهتم بهندسة هذا العالم وتنظيمه كما لو كان مملكته الخاصة. •••
جيته هو واحد من أولئك الذين تعلمت منهم، ولم أتعلم فنا أو أدبا أو علما، وإنما هو منهج الحياة التي عاشها جيته كان ينبهني من وقت لآخر كي أعيش على مستواه.
ولست أجد في جميع مؤلفات جيته من الشعر أو القصص شيئا عظيما سوى القليل من اللآلئ، وهو من حيث الشعر يدمن ذلك الطراز الذي يذكر له البيت الذي يتوهج بالحكمة، ولا تذكر له القصيدة التي تعالج موضوعا؛ ولذلك نحن لا ندهش ولا نتعلم كثيرا حين نقرأ مؤلفاته، ولكننا نتعلم وننتبه ونحس كأننا كنا نياما ثم استيقظنا حين نقرأ حياته.
هو منهج الحياة الذي يعيد إلينا ذكر «دافنشي» الرسام المثال الجيولوجي المهندس الفيلسوف الأديب الرياضي العاشق، الذي تعددت اهتماماته لا لأنه تعمد هذا التعدد؛ وإنما لأنه نظر إلى الطبيعة النظرة الموضوعية الموسوعية التي تثير الاستطلاع وتهيئ المشكلات الثقافية التي يشتغل بها الذهن.
وكان جيته مثل دافنشي ينظر إلى الطبيعة، بل إلى الفنون، هذا النظر الموضوعي، ومن هنا زاد استطلاعه وتعددت اهتماماته، وأصبحت ثقافته موسوعية. والحق أن الأدب لم يكن عند جيته فنيا، وإنما كان الفن الذي اهتم به هو فن الحياة، ثم كان الأدب جزءا من فن الحياة. •••
نتعلم من جيته أن غاية الحياة هي الحياة، أي ترقية الشخصية بتربيتنا، وبسط الآفاق أمامنا للتعلم والاختبار حتى نزداد فهما لأنفسنا وللطبيعة، فنزداد بذلك استمتاعا.
Halaman tidak diketahui