لم يكن الصبح قد تبسم حينما أخذت عائشة تستعد لسفرها الطويل. هل يبتسم الصبح حقا؟ إن كان كذلك فهو إنما يبتسم لغرور الإنسان وجهله وافتنانه في الكيد لأخيه الإنسان. إنه يبتسم سخرية من هؤلاء الذين إذا هبوا من نومهم، لم يفكروا في جمال النهار المشرق، والزهر الضاحك، والطير المغرد، والنسيم الذي يعبث بالغصون، ولم يصرفوا لحظة في الاستمتاع بما وهب الله لهم من نعم، وما أجزل من خيرات حسان. الموسيقى عندهم صخب ونقيق، والجمال طلاء كاذب لا يدوم، والفضيلة أسطورة كتبها فلاسفة لا يفهمون. يهبون من نومهم في الصباح على غل لازم وسادتهم، وحقد اختلطت به أحلامهم، وتدبير شيطاني تفتحت عنه قرائحهم بعد طول الكد وبعد التفكير. إن للحيوان الأعجم سلاحا يذود به عن نفسه، ويحافظ على بقائه، فله مرة ناب، ومرة حمة، ومرة فنون في الفرار، ومرة درقة تحميه الغوائل. وهو لا يلجأ إلى هذا السلاح إلا مدافعا أو جائعا. أما الكثير من بني الإنسان فقد اتخذوا من ذكائهم سلاحا هو أوحى سما من لعاب الأفعى، وأمضى فتكا من ناب الليث، وقد جردوا هذا السلاح، وافتنوا فيه، ووثبوا به على الناس والحيوان جميعا في حمق وجنون، لا يريدون إلا شفاء شهوة تغلي في الصدور. هؤلاء يقولون: إن الحلم للذلة إذعان، وإن الرحمة خور في العزيمة، وإن التسامح جبن وخذلان، ويزعمون أن الكذب دهاء وكياسة، وأن الخدع مهارة وسياسة وأن في نصب الحبائل ذكاء وعبقرية، وفي بث الفتن حذقا ولقانة، وقد يخدعون أنفسهم، أو تخدعهم أنفسهم بأنهم بذلك إنما يذودون عنهم الشر، والشر بالشر يدفع، أو ينالون حقهم، ولا ينال الحق إلا بشيء من الباطل، أو يزاحمون في سباق الحياة، فيصرعون من يقفون في وجوههم، فهم من أجل ذلك دائما بين صارع ومصروع، وسالب ومسلوب، وحاسد ومحسود، وباك وشامت. لهذا يسخر الصبح منهم، ولهذا تسخر الطبيعة الفاتنة منهم، ولهذا صاح المعري الفيلسوف الساخط يقول:
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى
وصوت إنسان فكدت أطير
ولهذا قال المتنبي قبله:
ومن عرف الأيام معرفتي بها
وبالناس، روى رمحه غير راحم
أتمت عائشة عدتها للسفر، وكان ينتظرها لدى الباب ثلاثة فرسان أشداء، وستة من جياد الخيل فحيت الجند، وامتطت فرسا وردا
1
كأنه قطعة من الشفق، طغى به نشاطه فسخر من الرياح، وكاد يسبق الظلال وطار الركب إلى طيتهم في غبش الفجر كأنهم القضاء المحتوم، فذعرت منهم الآكام، وثار من خلفهم الغبار ركاما فوق ركام، وما زالوا يصعدون نجادا، وينزلون وهادا، إلى أن أدركهم الليل، فأقاموا لعائشة خيمة وربضوا حولها يتوسدون أسلحتهم في حذر واحتراس، كأنهم يقظى وهم نيام. وهكذا توالت الأيام، وتعاقب نور وظلام، حتى بلغوا مشارف قرطبة في أصيل يوم صائف، فنزلت عائشة عن جوادها، وأمرت أن تنصب لها الخيمة، فما لبثت بها طويلا حتى ظهرت في زي غريب دهش له الجند، حتى إن أحدهم دخل الخيمة ليبحث عن السيدة التي كانت معهم منذ حين.
ظهرت عائشة في زي امرأة ريفية تحمل فوق رأسها جرة قديمة طال عليها الزمان، فلما رأت ما بدا على وجوه الجند من حيرة ابتسمت وقالت: هكذا يجب أن يتنكر من يخاطر بحياته في مدينة الأعداء. أترونني أحسنت التخفي حقا؟
Halaman tidak diketahui