فانبرى ابن المكري يقول: اسمعي يا عائشة، إن العداوة والبغضاء يجريان وراء المنفعة، فأعدى أعدائك من يزاحمك في رزق أو جاه أو منصب. تلك غريزة يا سيدتي، ترينها في الإنسان كما ترينها في الحيوان. أسقطي حفنة من الحب بين أفراخ الدجاج، ثم انظري ماذا تعمل، يثب هذا على ذاك، وينقر هذا ذاك، ويضرب هذا بجناحه ذاك. وابن زيدون يزاحمني الآن في كل شيء: يزاحمني في الأدب والجاه والرزق، حتى أصبحت في الديوان حشرة ملقاة على كرسي لا رأي لها ولا عمل. أصبحت مغمورا في الظلام لا يراني الناس، بعد أن بهر أبصارهم ضياؤه المتوهج، وأصبح شعري هذاء محموم، وأدبي لا جسم له ولا روح، ومنصبي لا يحتفظ إلا باسم أجوف يتندر به المتندرون، ويسخر منه الساخرون، فكنت يا عائشة بين أمرين: إما أن أناصبه العداء، وأجاهره بالبغضاء، كما فعل صاحبي ابن عبدوس، وإما أن أطوي نفسي على الغل والكمد، وأعمل في الظلام لدك ذلك الجبل الشامخ، واصطياد ذلك الأسد الزائر! فرأيت أن الأولى ستدفعه إلى الحذر، واتخاذ الحيطة، ثم إلى محاربتي بسيف أصلب من سيفي، وقوة تنهار أمامها قوتي. ورأيت أن الثانية أقرب من السلامة، وأدنى إلى الحزم، وأكفل ببلوغ الغاية، فزدت له من بسط وجهي، ولطف حديثي، وما أجيد اصطناعه من الملق والدهان والخديعة، حتى سكن إلي واطمأنت نفسه لمودتي، فأصبحت له الخل الوفي، والصديق الأمين. ولو فعلت معه كما فعل ابن عبدوس لم أزد على أني نفرت الصيد من الصائد، وأبعدته عن الشرك، ونطحت برأسي صخرة لأوهنها كما يفعل الوعل الأحمق.
فقال ابن عبدوس: مرحى يا أبا بدير! إن للناس وجها واحدا ولك ألف وجه ليس فيها وجه صحيح!
فضحك ابن القلاس وقال: أخشى كما تخشى عائشة أن يكون اليوم قد لبس أحد هذه الوجوه.
فقالت عائشة: لا يا عبد الله. إنني فهمت الرجل وأدركت فلسفته. ثم اتجهت نحو ابن عبدوس وقالت: أخبرني بلال - وهو من أخص عبيدي بعد أن أطلقته خلف ابن زيدون يقتص آثاره، ويتلقف أخباره - أنه لا يكثر من زيارة ولادة في هذه الأيام، وأنه يقضي أكثر الليالي بداره منفردا.
فقال ابن عبدوس: ألا يجوز أن يكون الرجل يخفي بداره شخصا؟ وأنه يكتم خبره عن أخص أصدقائه.
فصاح ابن المكري: يجوز جدا. ولقد علمت علما ليس بالظن أن ابن المرتضى نزل قرطبة خفية، وأن ابن زيدون يتصل به، فإذا استطعنا أن نقنع ابن جهور بهذه الصلة فقد قضي الأمر، وقضي على الرجل.
فقال ابن عبدوس: إن الجو جد ملائم، فإن ابن جهور تساوره الوساوس من قبل ابن زيدون، ولكنها كالبعوض يطن في أذنه ثم يطير فلا يستطيع له قبضا.
فصاحت عائشة: كيف نقنع ابن جهور بهذا الأمر الخطير، وهو رجل صارم في الحق، لا يأخذ بالشبهة، ولا يحكم إلا عن بينة؟
فقال ابن القلاس: هذا هو الذي جئنا لنتشاور فيه.
فالتفتت عائشة إلى ابن المكري وقالت: أواثق أنت تمام الوثوق من أن ابن المرتضى يقيم الآن بقرطبة، وأن ابن زيدون يتصل به؟ - نعم. - من نبأك هذا؟ - نبأنيه صديق ما كذبني قط، وقد كان ينادم ابن زيدون على شراب فتعثر لسانه وهو في نشوته بكلمات فهم منها صاحبي أنه يلتقي بابن المرتضى في كل ليلة.
Halaman tidak diketahui