ومدت المائدة، ووضعت عليها غرائب الألوان، ونفائس الأطعمة وأحاط الخدم والعبيد بالضيوف في أدب واحتفاء، يفهمون الإشارة ويكتفون بالإيماء، وجلست ولادة وإلى يمينها ابن زيدون، وإلى يسارها أبو الوليد محمد بن عميد الجماعة، وأخذ الضيوف يتنقلون بين الطعام والشراب بطرائف الأحاديث، ومد ابن زيدون يده بطبق من الطعام نحو ابن الحناط الكفيف وهو يقول: بدع قصيدتك التي تقول في أولها:
راحت تذكر بالنسيم الراحا
وطفاء تكسر للجنوح جناحا
أخفى مسالكها الظلام فأوقدت
من برقها كي تهتدي مصباحا
وكأن صوت الرعد خلف سحابها
حاد، إذا ونت السحائب صاحا
فقال أبو حفص بن برد، وكان يحقد على ابن الحناط: شعر حسن، ولكنه يحتاج إلى صقلة الفن.
فرفع الكفيف رأسه في غضب، وكان شيخا في الثمانين. وقال في سخرية: ما الذي يحتاج فيه إلى صقلة الفن يا مولاي الوزير؟! - يحتاج إلى كثير يا سيدي: إنك تقول «راحت تذكر بالنسيم الرحا» ثم تصف ليلة مظلمة مبرقة مرعدة، فأين مكان النسيم هنا؟ إن هذه الليلة يجب أن تكون فيما يقتضي التصور ذات ريح عاصفة. أما كلمة «كي تهتدي» فحشو ثقيل أفسد عليك البيت كله، وكان يجب أن تفتح آخرها، لأن المضارع اليائي يظهر عليه النصب، والعجيب أنك تصف سحابة وطفاء من أول بيت في القصيدة ثم تقول: «وكأن صوت الرعد خلف سحابها» والضمير في «سحابها» يعود إلى السحابة، فيكون محصل الكلام: وكأن صوت الرعد خلف سحاب السحابة، وهذا تهافت لا يستطاع الفرار منه، وبعد أن شبهت الرعد بالحادي قلت: «إذا ونت السحائب صاحا» والشعر يتطلب أن تقول: «إذا ونت الركائب صاحا» حتى يجيء للحادي ما يلائمه. فاكفهر وجه الكفيف، وانتفخت أوداجه من الغضب، وصاح: هذا هراء! ولكن الحق الذي لا مرية فيه أنك أردت أن تسرق مني هذه المقطوعة، فأسأت الصناعة، ولم تتقن السرقة حين تقول:
ويوم تفنن في طيبه
Halaman tidak diketahui