فقال أبو مروان: النصف الرديء أم النصف الجيد؟ - ليس في شعري رديء يا علقمة بن مرة، وخير لك أن تأخذ في تاريخك الأسود الذي لا تتقن سواه.
فقهقه ابن حيان وقال: هؤلاء هم غلمان بني أمية الأغرار الذين كنت تخطب الناس في ميدان الجامع الكبير داعيا إليهم، معددا مناقبهم، وكثيرا ما ضحكت منك في كمي، وأنت تبكي أو تتباكى على مجدهم التليد، وشرفهم العريق. وإني أشهد، والله يشهد أنك لا تبتغي من وراء ذلك إلا منصبا وجاها.
فقال ابن زيدون غاضبا: كنت أدعو لابن المرتضى الأموي. - أعرف، وأعرف أنه فر من قرطبة قبل أن تتم له دعوة، وأنك لم تنل شيئا إلا أن ملأت الصدور عليك حقدا.
ثم طفق يقول: لا تغضب يا أخي، فإني أكن لك من الحب وصادق الود ما أنت به عليم، ولكن ماذا أصنع وقد خلقني الله جافا شائكا لا أضع فوق الحق ستارا من الباطل.
فقال الدارمي: وهذا خير ما فيك يا أبا مروان. وكيف استقر الأمر بقرطبة بعد قتل المستظهر؟ - لم يستقر لها أمر، جاء المستكفي بالله ولم يكن من الحكم في ورد ولا صدر، وإنما أرسله الله على قرطبة محنة وبلية، وفي أيامه هدم البربر بقية قصور جده الناصر، فطوي بخرابها بساط الدنيا، وذهبت بهجة الأيام، والله يسلط جنوده على من يشاء، له العزة والجبروت! ولما اشتد الكرب بالقرطبيين فر المستكفي، وانتهت الرياسة بعد حين إلى أبي الحزم ابن جهور عميد الجماعة.
فقال الدارمي: المستكفي هذا أبو ولادة الأديبة الشاعرة؟ - نعم. وهي والحمد لله لم ترزأ بصفة من صفات أبيها. ثم التفت إلى ابن زيدون سائلا: أتحضر ندوتها يا أبا الوليد؟
فمد ابن زيدون شفته السفلى في أسف وقال: أنى لمثلي أن ينال هذا الشرف؟ إن ندوتها يا سيدي لا تفتح أبوابها لمثلي. أتعرف يا أبا مروان أنني لا أزال كاتبا في الديوان صغير المنزلة أنظر في شئون أهل الذمة؟! - كيف يا ابن أخي؟ لقد كنت عند ابن جهور منذ أيام، وجاء ذكرك في المجلس، فأثنى عليك وأشاد بذكائك وعبقريتك. - ولكنه أمامي يا سيدي باب مبهم ، ولغز مغلق، أنظر في وجهه فأرى صفحة خلت من لمحات العواطف، فأنت لا تعرف أراض هو أم ساخط؟ أمستحسن هو أم مستقبح؟ قدمت إليه بالأمس رسالة أراد أن يبعث بها إلى أمير بطليوس، وبذلت في كتابتها جهدا، وبلغت قمة لم يصل إليها كاتب، فلما عرضتها عليه وقرأها، لم يزد على أن قال: لقد أطنبت يا فتى! ثم انصرف عني يخاطب الوزير محمد بن عباس، كأن إنسانا من بني آدم لم يكن له وجود بحجرته! - إن الرجل يخافك يا أبا الوليد. - يخافني؟! - نعم فلقد لمحت ذلك من حديثي معه حين شبهك بأبي الطيب المتنبي، والرجل داهية بعيد الغور، فإنه لم يشبهك بهذا الشاعر بعينه إلا لما وصل إلى علمه من طموحك وبعد غايتك، فاحذر يا أبا الوليد وتجنب مواطن الشبهات، واحبس لسانك ما استطعت.
فصاح ابن زيدون فيما يشبه الغضب: يجب أن يكون لمثلي آمال ومطامح، وإلا فلمن خلقت خطيرات الأمور؟ - مرحى مرحى؛ إني لأجد ريح الشر والفتنة. - لا شر ولا فتنة يا أبا مروان، ولكن لا بد للمصدور أن ينفث،
3
وللأسير أن يتمرد على القيد. - لا تعجل أبا الوليد فالأمور مرهونة بأوقاتها، ولا بد بعد الليلة الليلاء من فجر باسم. كيف حالك مع الوزير ابن عبدوس! - إنه صديق مداج وعدو محاذر. - حقا لقد جمعته في كلمة. وهنا تهيأ الدارمي للقيام فصاح به ابن حيان: يجب أن نعرف قبل أن نقوم من مقامنا ماذا كان يكتب هذا الفتى العربيد.
Halaman tidak diketahui