Hasad Falsafi
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Genre-genre
وننهي هذا البحث بخاتمة تلقي نظرة تقييمية عامة على أبعاد المشروع الفلسفي لهابرماس. (1) المؤثرات الفكرية في مشروع هابرماس
يعد هابرماس - كما سبق القول - ممثلا للجيل الثاني من النظرية النقدية التي أخذت على عاتقها نقد عقل التنوير، وتجلى هذا النقد بصورة واضحة في «جدل التنوير» لهوركيمر وأدورنو، الذي عبرا فيه عن الانتكاسة التي أصابت التنوير والنكوص الذي أصاب العقل عندما تم توظيفه كأداة لخدمة الإنتاج الصناعي في المجتمعات الرأسمالية، وما ترتب على ذلك من اغتراب الذات عن الموضوع، وتحول عقل التنوير إلى ما أطلق عليه اسم «العقل الأداتي». وقد شارك هابرماس أعضاء الجيل الأول في نقدهم للعقل الأداتي، وكان بإمكانه أن يسير في «الجدل السلبي» الذي سار فيه أدورنو، ولكنه لم يجد فيه عاملا مساعدا على بناء نظرية نقدية متناسقة منهجيا، وذلك على الرغم من أن الفرصة لذلك كانت مواتية عندما بحث كل من هوركهيمر وماركوزة أوائل الثلاثينيات في بدايات الفلسفة البراجوازية العقلية، ووجدا فيها إمكانات عقلية كان من الممكن تنميتها على يد الطبقة العاملة والطبقات الهامشية، ولكن «جدل التنوير» كشف عن انهيار العقل ، وبدأت الشكوك تحوم حول هذا الأمر، وخاصة أن أدورنو كشف عن تناقضات النظرية النقدية، وأظهر التنوير في شكل معاد للحقيقة والصدق، فرأى هابرماس أنه لا بد أن يخرج من دائرة الجدل السلبي الذي لم يتبن سوى جانب الهدم.
وسرعان ما تحول هابرماس إلى ناقد للنظرية النقدية نفسها وجيلها الأول - في المرحلة الثانية من تطوره الفكري - وتصدى لما اعتبره نقاط ضعف في بنية النظرية، بل إن الأمر على حد قوله: «لم يكن ثمة نظرية نقدية (هكذا أجاب في إحدى مقابلاته على سؤال عما يراه من أوجه القصور في النظرية النقدية) لم يوجد مذهب متماسك ... لأن نظرية المجتمع ينبغي أن تكون نسقية، وبدا لي أن أوجه الضعف في النظرية النقدية يمكن أن تجمع تحت عنوان «الأسس المعيارية» وفي «مفهوم الحقيقة وعلاقتها بالأنظمة العلمية» و«التقليل من قيمة التراث الديمقراطي والدولة الدستورية».»
6
هكذا كان افتقار النظرية النقدية إلى الأسس المعيارية للنقد، واقتصارها على نقد مفهوم العقل الأداتي بغير أن تتجاوزه إلى نظرية نسقية، وتبنيها - في رأي هابرماس - لمفهوم الحقيقة عند هيجل مع أنه لا يتفق مع قابلية البحث العلمي للخطأ. وعدم أخذها - على مستوى النظرية السياسية - الديمقراطية مأخذا جادا، كل هذا دفعه - أي هابرماس - إلى البحث عن دماء جديدة تغذي النظرية النقدية، وتتلافى أوجه القصور فيها بوضع نظرية في الفعل التواصلي تكون «بديلا عن فلسفة التاريخ التي عولت عليها النظرية النقدية المبكرة، والتي يعد الدفاع عنها ممكنا.»
7
ومن أجل هذا جمع بين الهرمينوطيقا (فلسفة التأويل) وفلسفة اللغة، بحيث يمكن القول إنه مدين بنظريته عن الفعل التواصلي لحدوث استقاها من اللغويين والتحليليين.
انطلق هابرماس من سد الثغرات التي وجدها في النظرية النقدية، ونصب نفسه مدافعا عن العقل والعقلانية التي وجد فيها أساسا لنظرية اجتماعية نقدية جديدة، ومن أجل هذا الهدف وجد نفسه في مواجهة مع مشكلات الحداثة، وما آل إليه العقل الحديث، كما وجد نفسه أيضا في حالة مواجهة مع كل التيارات الفلسفية المضادة للحداثة، وتيارات ما يسمى ب «ما بعد-الحداثة» ونزعاتها التفكيكية للعقل. وكان عليه أن يتصدى للمطالبين بتحجيم دور العقل والمحتجين على هيمنته، داعيا لتفعيله لا لتحجيمه، ورافعا شعاره الشهير «إن الحداثة مشروع لم يكتمل بعد.» ولكن نقد العقل من قبل التيارات الفلسفية المعاصرة هو الذي دفع هابرماس لإعادة صياغة نظرية عقلانية جديدة. كما دفعته فلسفة هيدجر بتحليلاتها الأنطولوجية - التي ركزت على وجود الإنسان في العالم ووجوده مع الآخرين ... إلخ، ولم تنطلق من الوعي - إلى «الاهتمام بالوعي الفردي والوعي الجماعي، ومحاولة الكشف عن درة هذا الوعي على تحديد نمط الوجود ... فتأسست لديه البدايات الأولى التي قادته إلى التطلع نحو التحرر الاجتماعي من منظور سوسيولوجي وهو المنظور الغائب في فلسفة هيدجر»،
8
ولذلك كان هدف هابرماس هو تحرير الوعي الاجتماعي وتأسيس نظرية تقوم على التواصل الإنساني.
Halaman tidak diketahui