Hasad Falsafi
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Genre-genre
امتد تأثير بعض أفكار فلسفة الظاهريات وفلسفة الحياة وفلسفات الوجود إلى تيار آخر ساد في أواخر الثلاثينيات من هذا القرن أطلق عليه اسم التيار النقدي، وانطلق من «معهد البحوث الاجتماعية» بمدينة فرانكفورت، ومن هنا أطلق على هذا التيار اسم «مدرسة فرانكفورت»، واحتفظ بهذا الاسم حتى بعد أن هاجر أعضاؤه - في فترة الحكم النازي - إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ثم بعد عودتهم مرة أخرى إلى بلادهم عام 1951م. اتخذ أعضاء هذه المدرسة من التحليل النقدي منهجا لهم فعرفت باسم «النظرية النقدية»، وقد تطورت هذه النظرية على مرحلتين أساسيتين، تمت المرحلة الأولى على يد الجيل الأول من المؤسسين وهم هوركهيمر وأدورنو وماركوز وإريك فروم وغيرهم، وتطورت المرحلة الثانية على يد الجيل الثاني الذي يعد هابرماس أحد أشهر أعلامها.
إن السمة الأساسية التي جمعت أعضاء «مدرسة فرانكفورت» بجيلها الأول والثاني هو «نقد» العقلانية التقنية التي سادت الفكر الغربي في ظل الحضارة الصناعية والنظام الرأسمالي. إنها تعبير عن رفض العقلانية العلمية، وعقل التنوير بكل ما نتج عنه، وقد تبنى أعضاء المدرسة المنهج التحليلي النقدي للماركسية دون مقولاتها التقليدية. «وبلغت هذه المدرسة ذروة تأثيرها على الحياة الفلسفية والعقلية وعلى تفكير الرأي العام المثقف في أوروبا وألمانيا الغربية في النصف الثاني من عقد السبعينيات عندما تبنت حركة الطلاب المعروفة بعض أفكار النظرية النقدية وأدمجتها في أيديولوجيتها اليسارية الجديدة الرافضة لكل أشكال السلطة والتسلط.»
45
اكتفى الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت بنقد سلبيات المجتمع الأوروبي في ذلك الحين التي ذكرنا بعضها، ولكنها لم ترق إلى وضع نظرية نقد نسقية، ولم تقدم بديلا عما قامت بتوجيه النقد إليه. ولعل الدور الهام الذي لعبته هذه النظرية في مرحلتها الأولى هو تأكيدها على الدور النقدي للفلسفة. وأخيرا «تشتت أبناء الجيل الأول للمدرسة مع بداية الثمانينيات، وبقيت أفكارهم الثورية بغير أثر علمي ملموس، وانفضت عنهم حركة الطلاب المتمردين، وأحكمت الدولة قبضتها، وراحت تطارد اليسار الجديد وعلى رأسه رواد المدرسة وتلاميذهم، لكن المدرسة ظلت حية في الجيل التالي الذي ما يزال ممثلوه ممسكين بالخيوط التي نسجها الرواد، عاكفين على مواصلة تراثها النقدي الثوري وبلوة نظريتها النقدية.»
46
ويعد يورجين هابرماس (1929م-...) أهم ممثلي الجيل الثاني لمدرسة فرانكفورت. أفاد كثيرا من تطور العلوم الاجتماعية، وتعمق في مشكلات نظرية المعرفة وفلسفة اللغة، وبعض اتجاهات الفلسفة المعاصرة كالهرمنيوطيقا والأنثروبولوجيا الفلسفية، وانعكست كل هذه التيارات على تطويره للنظرية النقدية، أو بمعنى آخر إعادة بنائها وتزويدها بدماء جديدة، وساهمت كل اتجاهات الفلسفة المعاصرة - بالإضافة إلى التراث النقدي الذي ينحدر منه هابرماس نفسه: بدءا من كانط، وانتهاء بالجيل الأول من مؤسس النظرية - في تكوين القاعدة النقدية لفلسفة هابرماس، بحيث مكنته من «تأسيس منطلقات جديدة لنظرية نقدية خاصة به تتميز بمتانتها المعرفية والمنهجية، وتتسم بالامتداد والتواصل مع متغيرات المستقبل.»
47
وإذا كان الجيل الأول من مؤسسي النظرية النقدية قد هاجم عقل التنوير وكل ما تمخضت عنه أفكار الحداثة، فإن هابرماس دافع عن العقل، ونظر إلى الحداثة على أنها مشروع لم يكتمل بعد. وعندما نادى بعض المحدثين بأن تتخلى الفلسفة عن دور المرشد أو القاضي الذي يعين للعلوم مكانها ومناهجها ووظيفتها، وحاولوا تبرير قولهم بخلع الفلسفة عن عرشها بزعم أن الأفكار الأساسية (مثل الحقيقة والمطلق) ليست شروطا ضرورية للحياة البشرية، بل من الممكن أن تسقطها البشرية من حسابها؛ أقول عندما نادوا بذلك، تصدى هابرماس للدفاع عن دور الفلسفة وضرورة ارتباطها بالعقل، ولكنها عنده ليست دليلا للعلوم أو المعرفة، وإنما تشغل مكانها داخل العلوم، بمعنى أن الفلسفة لا تضع حدودا للعلوم ومناهجها، بل تكون هي نفسها منخرطة في هذه العلوم ومفسرة لها.
أكد هابرماس - إذن - على دور الفلسفة «باعتبارها منخرطة
Stand-in
Halaman tidak diketahui