Hasad Falsafi
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Genre-genre
هكذا نجد أن نيتشه ، وبعد أن صدمنا بفراغ الحياة من القيمة، حاول ملء فراغ القيم من خلال مفاهيمه وتصوراته عن العود الأبدي. وإذا لم يكن الوجود الإنساني سوى تفسيرات للعماء أو تقلبات له، فإنه يترتب عليه أن الإبداع الإنساني الذي يتم في اللحظة البريئة هو ما وراء الخير والشر، و«مهمة الصيرورة - أي أن نصير نحن أنفسنا -
to become what we are
هي مهمة مزدوجة ومفارقة تتطلب قدرة الفرد المبدع على حفظ التوتر بين البراءة والتجربة، بين الجهل والمعرفة، أن يعرف متى يتذكر ومتى ينسى ... هي أيضا مهمة اتحاد غريب للعماء والبصيرة.»
35
بهذا المعنى السابق يصبح الهدف الأسمى لنيتشه من فكرة العود الأبدي هو إضفاء القيمة والمعنى على وجود الإنسان في العالم الأرضي الذي يحيا فيه؛ ليس هذا فحسب، بل إن الفكرة في ذاتها هي بمثابة دعوة للتعلق بالحياة والارتباط بها وليس إنكارها أو الزهد فيها. إن فكرة الفناء أو التناهي الذي يهدد حياة الفرد، قد تدعو الإنسان للإعراض عن هذه الحياة الفانية التي مآلها إلى زوال، وربما تكون هذه الفكرة - الفناء أو التناهي - قد شغلت نيتشه كثيرا، فأراد أن يخلص الإنسان منها بأن جعل الفناء أو التناهي مرحلة من مراحل حياة أبدية متكررة دوما؛ بحيث إن ارتباط فكرة التناهي بالعالم الأرضي لا يصرف النظر عنه. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن صيرورة العالم لا تنفي عنه صفة الدوام. من هنا جاء تأكيد نيتشه على فكرة العود الأبدي كمحاولة لإضفاء الخلود والأبدية على الحياة، وسد الفجوة بين ثنائيات أرقت الإنسان طوال تاريخه كالتناهي واللاتناهي، والصيرورة والثبات، والفناء والخلود، فلم تعد هذه الثنائيات تتصادم، بل أصبحت مرحلة من مراحل حياة أبدية يتعلق بها الإنسان وينشد المزيد منها. كما تقضي الفكرة أيضا - أي فكرة العود الأبدي - على إحساس الإنسان باستعباد الزمن، بحيث لا يصبح أسيرا للماضي، بل مسيطرا عليه، وذلك عندما يعود إليه مرة أخرى ويخضعه لإرادته، على الرغم من أن الفكرة في ذاتها تتسم بالقدرية، وهذه أيضا من مفارقات نيتشه التاريخية.
تكشف فكرة العود الأبدي عند نيتشه عن كيفية خضوع الإنسان للضرورة بحريته، وما دام العود الأبدي يعتمد على وحدة اللحظة والصيرورة، فإننا إذا أردنا اللحظة فلا بد أن نتقبل ما تفضي إليه تلك اللحظة بنوع من القدرية العمياء، بل أيضا بنوع من «حب القدر»
Amor
Fati ، فكل ما يحدث في حياتنا الإنسانية مجرد تغيرات عشوائية للعماء
Chaos
تحدث بطريقة قدرية متفردة، ولكن ماذا تعني هذه القدرية عند نيتشه؟ هل ستجعلنا نعزف عن الحياة ونعرض عنها، ما دامت تفرض علينا تقلباتها العشوائية التي ربما تأتي على غير إرادتنا؟ الواقع أن فكرة نيتشه عن حب القدر لا تزيدنا إلا إقبالا على الحياة وتمسكا بها، فعلى الرغم مما نتعرض له من معاناة وآلام في هذه الحياة، فعلينا أن نتقبلها بكل حب وشجاعة، أي أن حب القدر لا يزيد الإنسان إلا تعلقا بالحياة وإقبالا عليها.
Halaman tidak diketahui