Hasad Falsafi
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Genre-genre
نبدأ هذه البانوراما الفلسفية للقرن العشرين بالتيار المسمى بفلسفة الحياة، وسنكتفي منه بالفيلسوف الفرنسي هنري برجسون (1859-1941م)، ولن نقف عنده كثيرا، لا لعدم أهميته ولكن لأنه - من بين فلاسفة قلائل - حظي باهتمام كبير في الفكر العربي، حيث ترجمت معظم مؤلفاته إلى اللغة العربية، وصدرت في عدة طبعات مختلفة، وتجاوبت معه الرومانسية العربية. لقد كان لبرجسون تأثير قوي ليس على الحياة الفكرية الفلسفية فحسب، بل على الحياة الفكرية والأدبية أيضا في النصف الأول من القرن العشرين، لما كان يتمتع به من أسلوب أدبي مرهف ودقة في التعبيرات الفلسفية، فذاعت شهرته وراجت كتبه. وعلى الرغم من أن آراء برجسون ليست جديدة تماما على الفكر الفلسفي الغربي - حيث نجد فيها أصداء هرقليطس وأفلوطين وهيجل وشيلنج ومين دي بيران - إلا أنه «يعد أكبر فيلسوف في فرنسا منذ عهد بعيد لما بذله من براعة في الجمع بين هذه الآراء والتجديد في عرضها، وقد أذاع لونا من التفكير وأسلوبا في التعبير طغيا على سائر فروع المعرفة العلمية وتجاوزاها إلى الأدب.»
15
واجهت فلسفة برجسون الحيوية كلا من النزعة الآلية الميكانيكية والنزعة المادية مواجهة نقدية حاسمة. وقدم برجسون فلسفة للحياة من خلال نظرية التطور في إطار حدده هو لنفسه واتخذه أساسا لاتجاهه الفلسفي، وليس في الإطار الذي حدده كل من اسبنسر ودارون، فقد عرض لتطور الحياة في لغة شعرية وأدبية بعيدة عن اللغة العلمية التي استخدمها علماء البيولوجيا. وقد اتخذ من «الوثبة الحيوية» أصلا للتطور، كما عرضها في كتابه «التطور الخالق» عام 1907م، ولم يكشف العقل عن هذه الدفعة أو الوثبة الحيوية، بل هناك ملكة أسمى منه - في رأي برجسون - وهي الحدس التي نتعرف من خلالها على ما بداخلنا من صيرورة مستمرة وديمومة حقيقية، وهي الملكة الوحيدة القادرة على فهم الحياة، وإدراك كل ما هو حي ومتغير ومتحرك وجديد في الزمان.
وفي كتابه «المعطيات المباشرة للشعور» يؤكد برجسون أن الحياة النفسية «تيار غير منقطع من الظواهر المتنوعة، أي تقدم متصل من الكيفيات المتداخلة، بخلاف الظواهر المادية التي هي كثرة من الأحداث المتمايزة المتعاقبة.»
16
وإذا كان برجسون يرفض المنهج العقلي كمنهج للفلسفة، فهو لا ينكره في ميدان العلم؛ لأنه هو القادر على القياس والتحليل والتركيب، ولكنه لا يستطيع النفاذ إلى داخل الأشياء، بل يعرفها من الخارج فحسب. أما الزمان الشعوري أو الباطني فلا يمكن إدراكه إلا بالحدس، وهو ضرب من الإدراك المباشر لحياتنا الباطنية ولمجرى شعورنا الداخلي. وقد حاول برجسون بذلك «تجاوز التفرقة بين الذات والموضوع بوصفهما قطبين متضادين، ولكنه نظر إلى هذا التجاوز نظرة مثالية، مقدما العالم الداخلي للإنسان، حدسه وحريته، بوصفهما بديهيات أساسية في الفلسفة.»
17
لقد كان الإسهام الأكبر الذي قدمه برجسون للفلسفة في بداية القرن العشرين هو إنقاذ فلسفة الروح من النزعة الوضعية، وقصد إلى «إنقاذ القيم التي أطاحها المذهب المادي، فهو واحد من أولئك الذين يقومون في الإنسانية ليعلنوا إيمانهم بالروح.»
18
ولقد كانت فلسفة برجسون بأكملها دفاعا عن الروح والحرية، والتأكيد على أن لكل إنسان شخصيته الحية المتميزة، وأن «كل خط للتطور ينتهي إلى تحرير الوعي عند الإنسان، ويظهر الإنسان وكأنه الغاية النهائية من تنظيم الحياة على كوكب الأرض»،
Halaman tidak diketahui