وأشاع في الناس أنهم زنادقة، حتى إن يحيى بن خالد لما نقل من سجن إلى سجن، اعتدى عليه رجل، وأظهر له الاحتقار، فخاف يحيى أن يكون قد ظلمه، أو بخل عليه ... فبعث إليه من يسأله، فلما علم أنه يرميه بالزندقة اطمأن إلى ذلك؛ لأنه علم أنها دسيسة عليه، وبذلك وأمثاله أوجد الرشيد حول البرامكة جوا مسمما.
وربما كان من ذلك ما أشاعه عن علاقة جعفر بالعباسة، ووعد جعفر للرشيد بأن لا يقربها؛ لأنه إلى ذلك العهد كانت الغيرة فاشية في الناس، فلما نكل بهم الرشيد لم يثر الناس وقابلوا الأمر بالهدوء.
ولولا نشاط الدعاية ضدهم لثار الناس على الرشيد، وفتكوا به إن استطاعوا، وكان يحيى البرمكي يحذر هذه النتيجة، ويعمل على قصر سلطان جعفر؛ فقال للرشيد غير مرة: «يا أمير المؤمنين، إنني أكره مداخل جعفر، ولست آمن أن ترجع العاقبة علي في ذلك منك، فلو أعفيته، واقتصرت على ما يتولاه من جسيم أعمالك لكان أحب إلي، وأولى بتفضلك» فلم يقبل الرشيد هذا، وكثيرا أيضا ما كان يحيى يقول: «الحكيم من توقع الشر»، ويقول: «لا أرحام بين الملوك وبين أحد» خصوصا وأنه علم أن الرشيد يصغي إلى الفضل بن الربيع. وقد أحكم الرشيد فعلته، ونشر الجواسيس يتجسسون على من يمدحون البرامكة، ويبكون عليهم، ويقطع رأس من بلغه شيء عنه، حتى خشي الناس، وأنكروا الصنيع.
وأسدل الستار على هذه القتلة الشنعاء ... هذا في نظري أهم سبب لقتل البرامكة، وهو غيرة الرشيد من سلطانهم وتحكمهم فيه، وعلو شأنهم على شأنه، أما ما عداه من الأسباب فأسباب ثانوية، وقد أولع المؤرخون أن يجعلوا لكل شيء كبير سببا واحدا؛ فلا بد أن يكون لغضب الرشيد على البرامكة سبب واحد، وإذا كان أبو العلاء المعري في شعره كافرا أحيانا مؤمنا أحيانا، فلا بد أن يكون كافرا فقط، أو مؤمنا فقط، فلذلك وقعوا في العناء والأخطاء.
وماذا يجري للدنيا لو كانت هناك أسباب مختلفة تنتج سببا واحدا؛ فقد عمل على إسقاط الدولة الأموية أسباب عديدة، وأبو العلاء بكل بساطة مؤمن حينا كافر حينا، شأنه في ذلك شأن أكثر العقلاء في الحياة؛ يرون من مظاهر الدنيا ما يحملهم على الكفر أحيانا، ويرون منها ما يحملهم على الدين أحيانا، بل حكى لنا الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال» أنه آمن إيمان العجائز أحيانا، وشك أحيانا، وآمن بالكشف أحيانا، فلم لا تكون نكبة البرامكة ناتجة من جملة أسباب لا سبب واحد، أولها: غيرة الرشيد من سلطانهم، وثانيها: عطفهم على العلويين، وثالثها: علاقة جعفر بالعباسة، إلى غير ذلك، على أنه ما يدرينا لعل الرشيد نشر في الناس علاقة جعفر البرمكي بأخته ليستثير كره الناس لهم، ويستخرج غضبهم ومقتهم، وإلا فلو نظرنا إلى المسألة بالعين العادية لم نجد فيها محلا للغضب والمقت.
حتى ولو صح فما في هذا مأخذ على شاب يألف زوجته، ويتصل بها.
قاتل الله السياسة
وليس قدر جعفر ولا أصوله بأقل من قدر الرشيد نفسه وأخته، إلا أن الرشيد فخور بعربيته، وجعفرا فخور بفارسيته، والرشيد فخور بابن عباس ... وجعفر فخور بجده برمك، والإسلام يقول: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، ولو خطب الرشيد لأخته ما عثر على مثل جعفر، ولكنها السياسة أرادت أن تكره الشعب في البرامكة؛ فاخترعت لها اختراعات متعددة من مثل هذا الزواج الذي ليس فيه ما يؤخذ عليه، ورميهم البرامكة بالزندقة، ونحو ذلك ... وكلها خوفا من الناس أن يثوروا على الرشيد لفتكه بقوم عدول في حكمهم، كرماء لقصادهم، محبين لمن يتصل بهم ... وقاتل الله السياسة! •••
على كل حال غضب الرشيد عليهم من كثرة ما سمع من الفضل بن الربيع، ومن زبيدة وأنصارهما، ونوى أن يسلبهم سلطانهم، ويسترد تصرفه كما يشاء، وأخذ يستشير غيرهم من مثل يزيد بن مزيد الشيباني، وهرثمة بن أعين، فأخذ الرشيد يتغير قلبه على البرامكة، ويستقبح منهم ما كان يستحسن، فحدثنا الجهشياري، أن الرشيد سمع مرة ضجة شديدة، فقال: ما هذا؟ فقيل له: يحيى بن خالد ينظر في أمور المتظلمين، فدعا له الرشيد، وقال: «بارك الله فيه، وأحسن جزاءه ... فقد خفف عني، وحمل الثقل دوني، وناب منابي»، ثم ذكره ذكرا جميلا ... وأمن الحاضرون على قوله، وزادوا في ذكر محامده.
هذا أيام الرضا ... أما حين تغير قلبه فقد ارتفعت ضجة شديدة كتلك، فقال الرشيد: ما هذا؟ فقيل: يحيى بن خالد ينظر في أمور المتظلمين ... فذمه، وسبه، وقال: «فعل الله به، وفعل ... استبد بالأمور دوني، وأمضاها على غير رأيي، وعمل بما أحبه دون محبتي، فأمن الحاضرون على رأيه، وزادوا في ذكر المساوئ.»
Halaman tidak diketahui