ومع ذلك فكان جعفر يعلم أيضا شيئا من التنجيم، فأخذ الإسطرلاب من يد المنجم، وقام وحسب النجوم فرآها حقا ساعة نحس، ثم قام وانصرف إلى منزله، والناس والقواد والخاصة والعامة يعظمونه من كل جانب، إلى أن وصل إلى قصره في جيش عظيم، فلم يستقر به المجلس حتى بعث إليه الرشيد مسرورا الخادم، وقال له: «امض إلى جعفر، وائتني به الساعة، وقل له: وردت كتب من خراسان، والخليفة يريد رأيك فيها، فإذا دخل الباب الأول فأوقف الجند، وإذا دخل الباب الثاني فأوقف الغلمان، وإذا دخل الباب الثالث فلا تدع أحدا يدخل عليه من غلمانه، بل يدخل هو وحده، فإذا دخل صحن الدار فمل به إلى القبة التركية، ثم اضرب عنقه، وائتني برأسه. ولا توقف أحدا من خلق الله على ما أمرتك به ، ولا تراجعني في أمره، وإن لم تفعل أمرت من يضرب عنقك» فمضى مسرور، واستأذن على جعفر، ودخل عليه، وقد نزع ثيابه يستريح، فقال له: «يا سيدي أجب أمير المؤمنين!» فانزعج، وقال: «ويلك يا مسرور! أنا خرجت من عنده في هذه الساعة فما الخبر؟» قال: «وردت كتب من خراسان تحتاج إلى النظر السريع» ... فطابت نفسه، ودعا بثيابه فلبسها، وتقلد سيفه، وذهب معه ... وفي قلبه بعض الشك.
فلما دخل من الباب الأول أوقف مسرور الجند، وفي الباب الثاني أوقف الغلمان، فلما مر من الباب الثالث التفت فلم ير أحدا من غلمانه فندم على ركوبه، وزاد الخوف في نفسه، وأدخل القبة فقال لمسرور: «ما الخبر؟!» قال له: «قد أمرني أمير المؤمنين بضرب عنقك، وحمل رأسك إليه الساعة» فبكى جعفر، وجعل يقبل يدي مسرور، ويقول: «قد علمت كرامتي لك دون جميع الغلمان، وأنت تعرف موضعي ومحلي من أمير المؤمنين؛ فلعل أمير المؤمنين أن يكون قد بلغه عني باطل فدعني أهيم على وجهي» فقال: «لا سبيل إلى ذلك» ... قال: «فاحملني إليه، وأوقفني بين يديه؛ فلعله إذا وقع نظره علي أن تدركه الرحمة فيصفح عني» قال: «لا سبيل إلى ذلك أيضا» قال: «فتوقف عني ساعة، وارجع إليه، وقل له: قد فرغت مما أمرتني به» فقبل منه ذلك بعد أن حل سيفه ومنطقته وأخذهما، ومضى مسرور، ووقف بين يدي الرشيد فرآه غاضبا أشد الغضب، فلما رآه قال متلهفا: «ماذا فعلت بأمر جعفر؟» قال «يا أمير المؤمنين أنفذت أمرك فيه» قال الرشيد «فأين رأسه؟» قال: «في القبة» قال: «فأتني برأسه الساعة.»
وقال مسرور لجعفر: «قد أمرني أمير المؤمنين بضرب عنقك ...»
فرجع مسرور، وجعفر يصلي؛ فسل سيفه الذي أخذه منه، وضرب عنقه، وأخذ رأسه بلحيته، وطرحه بين يدي أمير المؤمنين، فتنفس الصعداء؛ لأنه أنفذ تدبيره الذي أحكمه، وبكى بكاء شديدا على الصداقة الوثيقة التي كانت بينهما، وجعل ينكث الأرض، وقبض على أبيه وأخيه وجميع أولاد البرامكة، وغلمانهم ومواليهم، واستباح ما عندهم، ووجه مسرورا إلى المعسكر فأخذ جميع ما فيه من مضارب وخيام وسلاح، وقد أحصوا من قتله الرشيد من غلمانهم ومواليهم بنحو ألف إنسان، وأمر أن لا يرجع أحد من صنائعه إلى وطنه خوف أن يشبوا ثورة، وشتت شمل من بقي في البلاد.
وأتي بصبيين كانا ولدي جعفر، وكانا حسنين جميلين، فاستنطقهما فوجدهما فصيحين يتكلمان بلغة مدنية جميلة، وينطقان بفصاحة هاشمية، ثم أمر بضرب عنقهما، وأمر أن لا تذكر البرامكة في مجلسه، ولا يستعان بمن بقي منهم في بغداد، ولكن زبيدة والفضل بن الربيع وغيرهما لم يطمئنوا إلى ذلك، ويحيى باق والفضل يعيش، فإذا خرجا من السجن فربما دبرا الانتقام ممن كان السبب، فدسوا - وخصوصا زبيدة - ورقة تحت مصلى الرشيد، وفيها مدح للرشيد على عمله مع البرامكة، وتحريض على المضي في هذه السبيل إلى آخرها؛ فشدد على يحيى - وكان شيخا كبيرا - وزاد في حديده وأغلاله، وأحضر الفضل، وضربه سياطا حتى كاد أن يهلكه. •••
وتذكر يحيى مرة صلته القديمة بالرشيد فكتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم ... إلى أمير المؤمنين، ونسل المهديين، وإمام المسلمين، وخليفة رسول رب العالمين، من عبد أسلمته ذنوبه، وأوقعته عيوبه، وخذله شقيقه، ورفضه صديقه، وخانه الزمان، وأناخ عليه الخذلان، ونزل به الحدثان ... فصار إلى الضيق بعد السعة، وعالج الموت بعد الدعة، وشرب كأس الموت مترعة، وافترش السخط بعد الرضا، واكتحل بالسهر بعد الكرى.
يا أمير المؤمنين ... قد أصابتني مصيبتان: الحال والمال؛ أما المال فمنك ولك، وكان في يدي عارية منك، ولا بأس برد العواري إلى أهلها، وأما المصيبة بجعفر؛ فبجرمه وجرأته، وعاقبته بما استخف من أمرك، وأما أنا فاذكر خدمتي، وارحم ضعفي، ووهن قوتي، وهب لي رضاك؛ فمن مثلي الزلل، ومن مثلك الإقالة، ولست أعتبر ... ولكني أقر، وقد رجوت أن أفوز برضاك، وتقبل عذري، وصدق نيتي، وظاهر طاعتي، ففي ذلك ما يكتفي به أمير المؤمنين، ويرى الحقيقة فيه، ويبلغ المراد منه.
فوقع الرشيد على هذا الخطاب بالآية الآتية: بسم الله الرحمن الرحيم
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ، فيئس يحيى، وظل في السجن حتى مات ... ولئن كانت هذه الرواية أشبه أن تكون موضوعة، فهي تمثل الحال تمام التمثيل. •••
Halaman tidak diketahui