مأساة البرامكة
البرامكة
وقد حمل أعباء الخلافة عن الرشيد في أول عهده البرامكة؛ فكان يرجع إليهم في كل أمر، ويحملون التبعات في كل شأن ... واتسع سلطانهم، وعلا شأنهم ، وقصدهم جميع الشعراء بالمدائح، وكانوا من حسن السياسة ما حببهم إلى الرعية، وكل من هذه الأسرة اتخذ له صنائع بما غمرهم من أموال.
والبرامكة هؤلاء ينتسبون إلى برمك، وبرمك هذا كان كاهن بيت النار في مدينة بلخ المسمى النوبهار، وهو معبد للديانة الزرادشتية، وكانت هذه الديانة مملوءة بالطقوس المعقدة وبالسحر وبالأسرار، فلما انتقلوا إلى الإسلام لم تخل صدورهم من آثار هذه العقيدة.
ولمرانتهم على النظم الفارسية الدقيقة، خدموا المدنية الإسلامية خدمة كبرى؛ بما نقل إليهم ولهم من كتب الفرس القديمة وعاداتهم وتقاليدهم، كالتي نقلها الجاحظ في كتاب التاج.
ووضعوا أيديهم على مال الدولة كله ... حتى كان من شأنهم إذا أرادوا أن يتصرفوا في شيء منه، وجدوه تحت أيديهم، وإذا أراد الرشيد وقصره أن يتصرف رجع في ذلك إليهم، وكان أول من ظهر منهم في الإسلام خالد البرمكي، وعلا شأنهم في عهد الرشيد على يد يحيى بن خالد.
ثم كان أن دخل في القصر عدوهم اللدود الفضل بن الربيع، وقد جهدت الخيزران في إبعاده عن القصر، وهو رجل نشأ على الدس، وإعمال الحيلة ... وورث الدس عن أبيه الربيع؛ فقد كان الربيع سببا في أن يقتل المنصور أبا أيوب المورياني، وقد جاء القصر فوجد البرامكة قد وضعوا أيديهم على كل شيء في الدولة.
فكيف الخلاص منهم والرشيد نفسه خاضع لإرادتهم؟ ولكن لا بأس ... فليعمل الفضل الحيلة في إغضاب الرشيد عليهم، وكان الفضل شديد الكبر، شديد الغيرة من البرامكة، لا يبلغ مبلغهم في علم ولا نبل ولا فضل ... فحسدهم، وتمنى زوال نعمتهم، فكان يوما يدس إلى الرشيد أن البرامكة يعملون للوصول للخلافة، ويوما يدس إليه أن البرامكة ملاحدة وثنيون، يحنون إلى دين أبيهم القديم؛ بدليل أن قصورهم فيها مخابئ تحت الأرض، تحوي الشعائر القديمة الزرادشتية، فهم يتعبدون فيها خفية عن الناس، ويوما يحذره من البرامكة بأنهم يؤيدون العلويين سرا، ويودون نقل الخلافة إليهم، ويوما يوعز إلى مغن أن يغني الرشيد بهذين البيتين:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما تجد
Halaman tidak diketahui