وفرح عبد الله بالبطاطا وأكل منها الأولاد، وحتى هي نابتها قطعة، وفي الأيام القليلة التالية كانت تراودها ذكرى ما حدث، وتشيح بوجهها وتلعن نفسها وابن قمرين وجذر البطاطا وعبد الله. ولكنها تحمد الله - في سرها - أن أحدا لم يرها، وإن ابن قمرين تقول عليها فلن يصدقه أحد، ولكنها بعد أيام كانت قد نسيت كل شيء عما حدث، وأي شيء ينسي قدر البحث الدائب عن لقمة العيش. الذين لا ينسون هم الذين لديهم الوقت لكي يتذكروا ويسرحوا مع الذكرى. وعزيزة تبدأ اليوم مسعورة تجري هنا وهناك لتحصل على خبز لذلك اليوم، وتعود منهوكة مهدودة ما تكاد تضع رأسها على المخدة القش حتى يدهمها تعب أشد في مفعوله من النوم، غيبوبة طويلة يوقظها منها ذلك الهاتف الخفي الذي يوقظها كل فجر، هاتف اللقمة والدار الفارغة والأفواه المفتوحة الجائعة.
حتى المرض الشهري حين انقطع عنها لم تعره اهتماما يذكر، فكثيرا ما كان ينقطع وينتظم ويغيب شهرا ثم يعود. لم تفطن إلا حين بدأت تحس بالحمل. ورغم كل علاماته وإشاراته فلم تصدق أنه - حقيقة - حمل، أمن مرة واحدة أو مرتين يحدث هذا، ومن أجل جذر بطاطا؟!
أفظع ما في الأمر كان عبد الله، عبد الله لم يقربها من عمر ابنتها زبيدة، والناس تعلم هذا، فماذا يقول؟ وماذا يقول الناس؟ هو لن يقتلها فهو عاجز عن قتلها، والناس لن يقتلوها فهم لن يستطيعوا قتلها، ولكن القتل عندها أهون من أن يعرف عبد الله ويعرف الناس.
كان لا بد - إذن - من التخلص من هذا الشر المستطير الذي يرقد في مكان ما من بطنها، ويكبر كل يوم ويملؤها ولن يهدأ حتى يخمد أنفاسها. وجربت عزيزة كل شيء، أعواد الملوخية، وإدارة الرحى فوق بطنها والقفز من السطح جربته. ولكنه كان ابن حرام فعلا فلم يزحزحه كل هذا ولم يسقطه، بل مضى يكبر كل يوم، بل بدأ يلعب، ولا يحول بينه وبين أن يفضحها على الملأ إلا هذا الحزام القوي السميك الذي تتحزم به في غل وجبروت، وكأنها تريد أن تخنقه في بطنها وتقتله قبل أن يقتلها.
كان الحزام يخفي بطنها إلى حد كبير، وكانت تترك عب جلبابها الأسود الواسع مهدلا فوق الحزام الخارجي، وحين تمشي وحين تقف وحين تنام وحين تتحدث كانت تراعي دائما أن تفعل هذا بطريقة لا تدع مجالا للشك فيها، وكان هذا يؤلمها أشد الألم، وكانت تتحمل أشد الشدائد حتى دون أن يكون لها الحق في الشكوى، والشكوى أحيانا تذهب بالألم. وكانت تحتمل وتكظم، ويفيض بها الحال في ليال وتتنفس بحرية وترفع يديها وأنظارها وروحها إلى السماء وتطلب من الله أن ينقذها، إن لم يكن لأجل خاطرها فلأجل خاطر عبد الله الراقد العاجز.
كل ليلة وكل دقيقة تدعو ولا دعاء من دعواتها يستجاب، بل حدث ما هو أمر، جاء الموسم ونادى المنادي في البلد. النفر بسبعة يا أهالي والقبض على خمستاشر يوم والغايب يعلم الحاضر.
وكان لا بد لها في هذا العام أن تذهب وإلا هلكوا، فالعام الماضي الذي لم تذهب فيه رأوا خلاله نجوم الظهر وعاشوا على الطوى. لا بد لها من الذهاب، قال لها عبد الله هذا، وقال لها الناس. وقالت هي هذه المرة: من غير كلام أنا رايحة.
وأخذت زوادتها، وشدت على يد عبد الله وهي تودعه، وقبلت الصغير واحتضنته، وبكت وبكوا هم الآخرون وهم يصرون على الذهاب معها حتى «الحلزونة».
وامتلأت العربة، وزمر السائق وانطلقت، وانطلقت معها عقائر الأنفار تغني للمحبوب وللغربة وتعتب على الزمان. والغريب أن عزيزة بعد حشرجة بكاء أول الأمر، ثم صمت، بدأت تغني معهم، وشيئا فشيئا بدأت تحس أنها تغادر أرض الفقر والعلل وجذور البطاطا وأنها تدخل في الحياة المضمونة الجديدة.
واشتغلت عزيزة ونسيت كل شيء في غمرة الشغل، نفسها وعبد الله والبلد، ولكنها أحيانا كانت تذكر بطنها وما فيه وما حوله من أحزمة. وأحيانا تنسى، والنسيان والذكرى لا تكونان سوى جزء ضئيل من الأشياء التي تتعاقب عليها، تعاقب الشمس حين تشرق وظهرها محني فوق العيدان، وحين تغيب وهي تدفع باللقمة الحاف في فمها، كالنهار بما فيه من قيظ وعرق وعصي رفيعة يصل ضربها إلى العظم، والليل بما فيه من غيبوبة واسترخاء وأحلام تبقى دائما بلا تفسير.
Halaman tidak diketahui