جاء دميان ضاحكا مهمهما كعادته، السبت معلق في ذراعه واللعاب يكاد يسيل من فمه كلما طوح برأسه أو شرع في الضحك، وقابلته الست أم صفوت بترحاب، وأجلسته على الكنبة في حجرة النوم رغما عنه؛ إذ كان ينفر من الجلوس في حضرة الناس أشد النفور. ولم تكن هذه أول مرة يدخل فيها دميان حجرة النوم، فدخوله فيها أمر لم يكن فيه شبهة أو عيب. جلس دميان على مضض وجلست هي بجواره، وطلبت منه أن يحسب لها نجمها في ذلك اليوم، وشرع دميان يقلب يده ويبلل إصبعيه ويرسم بهما على ظهر يده ويحسب.
ولم تكد تمضي بضع دقائق حتى شاهد الناس دميان يندفع جاريا من بيت المأمور والسبت لا يزال معلقا في ذراعه، وعبثا حاول البعض إيقافه لسؤاله عن سبب جريه.
ولم يمض جريان دميان من منزل المأمور بسلام، إذ هو شيء غير عادي، سر، وكأنما سر لا حل له، فلا بد من أقوال تتناثر عنه وتفسيرات وشائعات.
وعلى العموم لم يكن هذا هو السر الوحيد الذي بدأت الأقوال تتناثر عنه وتشيع. ما أكثر الأسرار التي ارتفعت عنها أغطيتها وفاحت رائحتها وبدأت تزكم الأنوف. أيام قليلة مضت منذ اليوم الذي اكتشف فيه عبد المطلب اللقيط، ولكنها كانت كافية لأن تقلب الأمور في التفتيش رأسا على عقب، فثمة أم لا بد أن توجد لهذا اللقيط، وطالما هي مجهولة فأي اتهام صحيح، وأي إشاعة قد تكون هي الحقيقة، والإشاعات كثيرة والألسنة في التفتيش لا تهدأ. •••
ولم تستدع المسألة أن ينتظر فكري أفندي المأمور تسعة أشهر كما فعل سيدنا عمر؛ إذ بعد أقل من عشرة أيام قد عثر على الجانية. ولم يعثر عليها هكذا بطريق الصدفة، فلفطنته فضل كبير في اكتشافها. كانت لطع الدودة - رغم كل مجهودات فكري أفندي - قد ازدادت بشكل ينذر بالخطر وأصبحت تهدد بالفقس، ومن ثم باكتساح أرض القطن كلها، والواقع أنه من بين السبعة آلاف نسمة الذين يحيون على أرض التفتيش كان فكري أفندي هو الوحيد الذي يهمه أمر الدودة ونقاوتها. فالمزارعون الفلاحون لا يهمهم القطن في قليل أو كثير. القطن وإن كانوا يزرعونه ويحرثونه وتحتسب عليهم مصاريف جمعه ونقاوته وحتى تطهير المصارف حوله إلا أنه محصول صاحب الأرض ولا شيء غير هذا. فالفلاح يأخذ حقيقة الثلث من محصول الأرض التي يزرعها، ولكن الثلث يذهب هباء، يذهب في تسديد مصاريف القطن ومصاريف المحاصيل الأخرى والسلفة التي اقترضها الفلاح في بحر العام ليشتري بها التقاوي ويكري الأنفار. وحتى إذا بقي للفلاح شيء بعد هذا يقيد لحسابه في العام القادم فكيف يهمه أمر القطن إذن؟ الإدارة هي التي تأخذه وهي التي عليها أن تتعهده، والمسألة في رقبة المأمور. فالقطن غال، وهو يعد المحصول الرئيسي للأبعادية، وإذا أكلته الدودة ضاعت على الخواجة صاحب الأرض آلاف الجنيهات، بل ضاع فكري أفندي نفسه. والسبب الرئيس لرفته من التفتيش الذي كان يعمل فيه قبل عمله هذا كان هو الدودة حين فقست منه والتهمت أوراق القطن وأضاعت المحصول؛ ولذا ففكري أفندي لا يخاف من شيء في الوجود قدر خوفه من اثنين: الدودة وصاحب الأرض. ولا يتبلور هذا الخوف ويصبح هلعا إلا في موسم مقاومة الدودة وهي لا تزال لطعا، هو موسم الامتحان الرهيب لفكري أفندي وأعصابه وعضلاته ومستقبله وكل شيء فيه. وبين شماتة الباشكاتب ومكائده وخطابات المفتش الذي يكتبها بنفسه وبخطه الماكر الحذر، ويكتب أجزاء منها بالحبر الأحمر ويعلم تحتها بخط، وبين عدم مبالاة الفلاحين ولكاعة الأنفار والسواقين ولعبهم، يهلك فكري أفندي وهو يصحو من الفجر ويعود من الغيط بعد أذان العشاء، ويدعو الله دواما أن يسترها معه. وأخوف ما يخافه أن تهبط المقاومة مرة فتفقس اللطع وتكون الكارثة ويرفت، ويعيش في ذلك الذل المقيت الذي يفضل الموت على تعاساته. ففكري أفندي كمعظم زملائه من مآمير التفاتيش ونظارها إذا رفتوا من التفاتيش لا يستطيعون مغادرته إلا إذا وجدوا عملا في تفتيش آخر؛ وعلى هذا فحين يفصل الواحد منهم يظل يرجو صاحب الأرض حتى يبقي عائلته في بيت التفتيش الذي يسكن فيه، بينما يهيم هو على وجهه في القطر كله سائلا معارفه وأصحابه باحثا عن عمل ولو لينقل إليه عائلته ويسكن، والمصيبة الكبرى حين تأتي عائلة الموظف الجديد بعفشها وصغارها قبل أن يجد الموظف المرفوت عملا ومن ثم محل إقامة.
من أجل هذا فرعب فكري أفندي من الدودة أشد ضراوة من رعبه من الموت، وحرصه على أن يتحلى بالخلق الكريم راجع إلى اعتقاده بوجود رابطة قوية بين أي إثم قد يرتكبه وبين الشياطين السوداء الزاحفة التي يطلقها الله عليه في كل عام مرة، ليمتحن بها ويعاقب العقاب الأكبر إذا أخطأ، وتنسحب ملايين الملايين من الشياطين إلى أوكارها إذا ثبتت نظافته وبراءته.
كان - لفرط حرصه - يخرج قبل شروق الشمس ويجوب أرض القطن كلها مشمشما بأنفه، خائفا - لا قدر الله - أن تلتقط حواسه رائحة الدودة، فاللطع لا رائحة لها، أما الدودة فأعوذ بالله من رائحتها حين يطب قلبه إذا التقطها بأنفه، رائحة غريبة على الغيط وعلى القطن وعلى الصبح المبكر، ملايين الملايين من حيوانات صغيرة متوحشة تلتهم في طريقها كل أخضر ويابس، كأنها رائحة القبر، رائحة الموت حين يلتهم الأحياء ويتبرزهم، رائحة الورق الأخضر الحي وهو يموت، والموت الأسود الزاحف وهو يعيش على الأخضر الحي. كان فكري أفندي يقشعر لمجرد السيرة ولمجرد ومضة الخاطر. وآه لو شمها الخواجة صاحب الأرض، الخواجة زغيب الذي لا يضطرب فكري أفندي لشيء قدر اضطرابه حين يعلم أنه قادم. حتى وهو يصدر الأوامر للكلافة والتملية برش ما أمام السراية والطريق وكنسه تخرج أوامره راجفة تفضح اضطرابه. ويقولون: إن التفتيش كان في أول أمره ملكا لإحدى البرنسيسات ثم باعته الأميرة للخواجة زغيب الكبير، وصاحب الأرض الحالي ابنه الأكبر، ضخم فحل ذو شعر كثيف أصفر يظهر من صدره وسواعده حين يرتدي القميص والبنطلون والبرنيطة البيضاء المصنوعة من الفل، ويخرج للمرور. طوال المرور لا يبتسم، وإنما يرقد فوق الحصان الذي لا يركبه أحد سواه، يرقد فوقه كالتمثال الأصم. وفكري أفندي هو الذي يبدو على الركوبة بجواره كالقرد العجوز، طوال الوقت عيناه معلقتان بملامح الخواجة، ولسانه رائح غاد يتحدث ويحاول إضحاكه، ويده تشير وتلفت النظر إلى مصرف تطهر حديثا وتعمق، أو إلى مشاية أنشأها هو بحذق ومهارة، يده تشير وتلفت وتداري العيب أيضا إذا كان هناك عيب، ولا بد أن يكون هناك عيب، يدعو فكري أفندي الله وملائكته ورسله ألا تقع عليه عين الخواجة، ولكن عينه دائما تقع عليه وكأنما خلقت لا ترى إلا العيب. والفاجعة أنه لا يتكلم حين يراه. ليته يتكلم ولكنه يسكت، وما أبشع سكوته في تلك اللحظات.
كان متزوجا من فرنسية نادرا ما كانت تأتي معه، فيحاول فكري أفندي إتحافها بسبت صغير من التوت الأحمر الذي تحبه لعلها تدلي في حقه بشهادة تبيض وجهه، ولو بتلك اللغة التي لا يفهمها والتي لا تتحدث إلى الخواجة إلا بها، وكانوا يقولون: إن الخواجة له عشيقة غيرها، وإنه لا يخلف، وإنه لولا دينه الكاثوليكي لكان قد طلقها، ربما ليخلف ولدا يرث هذا الملك كله، ويقولون - وفكري أفندي هو القائل - إن له في سرايته المطلة على البحر في سيدي بشر بالإسكندرية حجرة سفرة من الذهب الخالص، كراسيها مطعمة بالذهب وأطباقها وملاعقها وشوكها وسكاكينها ذهب في ذهب، يقولون: إن «زغيب» الكبير اشتراها حين عزم الملك لما كان سلطانا على العشاء عنده، ويقولون أكثر من هذا، يقولون: إن الخواجة الابن قد تدهورت أحواله بعد وفاة أبيه، وإنه باع التفتيش فعلا للشركة البلجيكية للأراضي، وإنه استأجره منها وهو الآن يديره لحسابها، تلك رواية، ورواية أخرى تقول: إن الأحمدي باشا مليونير المديرية يفكر في شرائه، بل ويتفاوض فعلا مع الخواجة والشركة، ويتصعب الناس، فالأحمدي باشا هذا كان - قبل الحرب العالمية الأولى - شيالا في مضرب أرز، وتاجر فيه وكسب واغتنى واشترى المضرب، وأصبح له شون وعمارات وألوف مؤلفة من الجنيهات في البنوك، ويفكر الآن في شراء تفتيش البرنسيسة، والأدهى من هذا أنهم يقولون: إنه على استعداد لدفع ثمنه بالكامل نقدا.
الأقوال عن التفتيش وصاحبه الخواجة زغيب كثيرة، ولكن المهم أنه لا يزال صاحب الأرض الذي ترتجف أوصال فكري أفندي لمجرد احتمال قدومه. الساكت الذي لا يخرجه عن سكوته إلا الخطأ إذا لمحه، حينئذ لا يعرف أباه، يفصل ويرفت ويخصم وأحيانا يضرب، وآه من هذا الساعد الضخم الذي تربى على الفراخ والحمام والديوك والخمرة حين يهبد به الواحد فيطبق به قفص صدره.
كان ازدياد لطع الدودة إذن خطرا ساحقا يجب تداركه، وازدياد اللطع كان يعني لدى فكري أفندي شيئا واحدا: أن مقاومتها ليست على ما يرام. ومعنى هذا أن الأنفار يتكاسلون، والمشرفين عليهم من الخولة والسائقين والملاحظين يلعبون. وقد تكون هناك أسباب كثيرة لهذا، ولكن فكري أفندي كان يعزوه لسبب واحد ليس هناك من سبب سواه، نهيق ركوبته، هو الذي يكشف قدومه من بعيد ويجعلهم يمثلون أمامه رواية «وطي يا ولد، وطي يا بنت» التي يجيدون تمثيلها تمام الإجادة. وعلى هذا ألغى فكري أفندي الركوبة من مروره، وأصبح يقطع عشرات الكيلومترات سيرا على الأقدام عله يفاجئ مرءوسيه ويضبطهم متلبسين بجريمة الإهمال.
Halaman tidak diketahui