سألها أبوها عما بها فقالت له: عندي مغص، ولأمر ما، ربما من الطريقة التي قالتها بها، ربما من مرآها بشعرها هذا وعينيها المنتفختي الجفون، لأمر ما أحس مسيحة أفندي - فجأة وبشكل قاطع - أن بنته لنده هذه لا بد أن تكون هي التي ارتكبت جريمة الصباح. إحساس دفعه لأن يتوقف عن استرساله في الكلام، ويحدق فيها وكأنما يراها وكأنها ليست ابنته، وكأنها أنثى داعرة، لأول مرة في حياته، وبين شكه في هذا ويقينه من أنها ابنته، راح مسيحة أفندي يمسحها بعينيه الضيقتين ويتحسس يدها وبطنها مدعيا أنه يسألها عما بها، وبطنها بالذات، لم تكن له ليونة بطون الوالدات ولكنه كان يوجعها.
الشك لم يكن مسيحة أفندي قد أحسه أبدا إلا تجاه الآخرين، تجاه الفلاحين والمآمير والإدارة وكل الناس. لم يكن أبدا قد أحسه تجاه نفسه أو من هم في حكم نفسه، تجاه عائلته، تجاه ابنته لنده بالذات. حياتها علنية أمامه وأمام أمها وأمام الناس، وحتى إشاعة رسائل العيون والنظرات والإشارات بينها وبين صفوت تكاد تكون علنية هي الأخرى، وحياتها العلنية هذه هي كل حياتها، فهل من الممكن أن تكون لها حياة أخرى، حياة تزاولها مع صفوت ابن المأمور في الظلام؟ ليت الأمر جاء على شكل أسئلة حيرى تريد الإجابة. الأمر جاء على شكل حمى داخلية اجتاحت مسيحة أفندي دون أن يكون في استطاعته النطق أو التنفيس. لنده مغصها قد يكون حقيقيا وقد يكون حجة وستارا، وزوجته عفيفة قد تكون - على عهده بها - كثيرة الرغي واللت والتعليق، ولكنها رفيقة عمره الوفية الأمينة، وقد لا تكون كذلك، قد تكون هي المتسترة على بنتها، بل وما أدراه أنها لا تتستر أيضا على نفسها؟
لم يعد في وسع مسيحة أفندي أن يبقى بالحجرة، فقد أحس أنه يختنق وأن ليس باستطاعته الكلام. غادرها إلى الصالة حيث الشعرية والمجتمعون حولها، رأته عفيفة متغير السحنة فسألته عما به، وهمهم وغمغم ولم تفهم مما قاله حرفا. نادى على دميان أن يتبعه وغادر البيت وتلكأ ليلحقه، وشهد جسر الترعة الممتد أمام البيت أغرب حوار يدور بين الأخوين. الدنيا حارة لافحة، والشمس في كبد السماء تتوهج ملايين أفرانها وترسل على الكون حممها، ومسيحة أفندي سائر وبجواره دميان يحاول - لأول مرة في حياته - أن يحدثه حديثا جديا، حديث الأخ لأخيه، يحاول أن يسأله إن كان قد لاحظ شيئا أو فطن إلى شيء، يسأله عن صفوت ولنده، والحرام والحلال، ودميان سادر في رواية غريبة عن دجاجة كل يوم يقيسها فيجد فيها بيضة، ولكنها لا تبيضها، مؤكدا أن البيضة لا بد فيها سر، وقد تكون مفتاح كنز ما خائف إن هم ذبحوا الدجاجة أن يذهب ما فيها من كنز وسر، وإن هموا تركوها أن يسرقها الجيران.
وأخيرا لم يعد مسيحة يحتمل، زجره بعنف وسبه وتركه ومضى، ووقف دميان حائرا لبعض الوقت وقد توقف عن استرساله، ثم ما لبث أن أدرك أن أخاه سبه وشتمه، ويبدو أن تلك أول مرة كان يحدث فيها هذا؛ إذ ما لبث أن راح يبكي وقد خلع طاقيته يجفف بها دموعه، وبدت رأسه صلعاء تقدح شررا تحت الشمس. •••
في نفس ذلك الوقت كان صفوت ابن المأمور متكئا في شبه غيبوبة على مسند الكنبة الوحيدة في بيت أحمد سلطان كاتب الأنفار في التفتيش، وتلك كانت جلسة صفوت المختارة، حين ينتهي أحمد من عمله ويئوب إلى بيته، فيضطجع الاثنان أحيانا حول «الجوزة»، وأحيانا حول امرأة وأحيانا حول فنجال. أحمد سلطان هو الأعزب الوحيد بين موظفي التفتيش، وهو أيضا الوحيد الذي يقطن بمفرده في بيته الملاصق لبيت مسيحة أفندي. ومن بين الموظفين جميعا فإن أحمد سلطان هو الوحيد القريب إلى قلب صفوت. كان شابا مثله، وأهم من هذا كان أكبر منه في السن والتجربة والمعرفة الأكيدة. لم تكن صداقة بالمعنى المفهوم هي التي تجمعهما، فأحمد سلطان في معاملته لصفوت لا ينسى أبدا أنه ابن المأمور رئيسه ورئيس التفتيش، وفي معاملة صفوت لأحمد حد معين من التحفظ. فأحمد هذا لا يجيد القراءة والكتابة والله أعلم كيف وصل إلى وظيفته تلك، شتان بينه وبين صفوت الذي يستعد لدخول الجامعة وإكمال تعليمه في القاهرة. ولكن - مع كل هذه الاعتبارات - فتآلفهما مضرب الأمثال، وأيضا مبعث شقاء فكري أفندي المأمور الذي كان لا يطمئن أبدا إلى أحمد سلطان، ولم يفلح زجره ولا حتى الشجار العنيف في فصم هذه العلاقة.
كان صفوت متكئا على مسند الكنبة يتبادل هو وأحمد سلطان سيجارة ملغمة، يتناوبان أخذ أنفاسها وهما حريصان في نفس الوقت على إبقاء طفيتها عالقة بالسيجارة، وكأنما لو وقعت الطفية ذهب المزاج. وكان ثمة حديث يدور، وأهم خبر في ذلك اليوم كان هو حادث اللقيط، وطبعا كان الحديث يدور حوله.
والواقع أن ما كان يدور لم يكن حديثا بالمعنى المفهوم. كان صفوت في قمة انفعاله لمعرفة علاقة أحمد سلطان باللقيط، وكأن قد ثبت لديه - بطريقة قاطعة - أن بينهما علاقة ولم يبق إلا أن يعرف كنهها. ولكنه كان لا يريد أن يبدو في عين أحمد سلطان كالطفل المحب للاستطلاع، كان يريد أن يجعله يعتقد أن أسئلته إنما هي أسئلة رجل مجرب لرجل مجرب. ولعل هذا هو السبب في طريقة جلوسه على الكنبة حيث كعى كعية رجل مجرب ذكي خبير، ولعله أيضا السبب في تلك الابتسامة التي قصد منها أن يقول لمحدثه: أنا كاشفك قوي! بل حتى مداعبة شاربه، الشارب الباهت الذي لم يتعد عمره العام الواحد، والذي تعمد صاحبه أن يحيطه بالرعاية وينميه لكي يبدو ابن أعوام. حتى مداعبة الشارب كانت تتم بروية وكأنها مداعبة كبير لشاربه الكبير.
وكان أحمد سلطان ينصت وابتسامة كبيرة لا تغادر ملامحه. ابتسامة كان صفوت يحس أمامها دائما أنه مهما قال وتحدث عن مغامراته فهو صغير، مجرد تلميذ خائب في مدرسة أحمد سلطان ناظرها. ابتسامة يظن صفوت أنها ابتسامة تهكم وسخرية، مع أنها قد لا تكون كذلك.
ظل صفوت يتحدث وأحمد سلطان ينصت، وأخيرا بدا أن صفوت قد كف عن إخراج كل ما في جرابه وأفلس، فقال لأحمد: أبو حميد، بذمتك ابن مين ده؟
هنا قهقه أحمد سلطان، واحدة من قهقهاته العاليات التي كانت تسمع في بيت مسيحة أفندي، وكلما سمعها مسيحة - تخترق الجدران وتصل إلى آذانه وتكاد تخرقها - اشمأنط، ولوى بوزه، وأفلتت من فمه كلمة سباب. ولأمر ما لم يطمئن صفوت لقهقهة سلطان، وحسبها أنها قهقهة تهكم هي الأخرى، ولعل هذا هو السبب في أنه استطرد قائلا: تعرف إنك غويط قوي، كده ولا لأ؟
Halaman tidak diketahui