وهذه المرة أيضا تضايق فكري أفندي واغتاظ، فذلك النهيق كان عيب الركوبة الوحيد في نظره وكأن بينه وبين المقاولين والأنفار والخولة اتفاقا. ما يكاد يخرج للمرور ليفاجئهم - وهم عنه في غفلة - حتى تفاجئه الركوبة وتنهق ذلك النهيق العالي، الذي يصل إلى آخر الدنيا ويوقظ النومى في مضاجعهم، ويجعل كل شيء في الغيط على أتم ما يرام، وعلى استعداد مجهز لاستقباله.
حين ارتفع النهيق كان الركب قد بدأ يدخل في الأرض المزروعة قطنا وقد غادر لتوه غيط القمح. كان الغيط لا آخر له بحيث يبهرك أن تعرف أن شخصا واحدا فقط هو الذي يملكه، وبحيث تود في الحال لو كنت أنت ذلك الشخص. وشكل الغيط المزروع يذكرك حتما بالجنة، فوأنت سائر على المشاية ترى القناة التي بجوارها صحيحا، وترى عيدان القطن بكامل هيئتها ولوزها وأوراقها، ولكن شجيرات القطن لا تلبث - كلما بعدت - أن تتداخل وتتداخل، وإذا بالتربيعة تبدو أمامك مجرد مستطيل أخضر. والأرض مقسمة إلى ترابيع، والترابيع القريبة محدودة المعالم، وبين كل تربيعة وأخرى مصرف صغير، ولكن الترابيع كلما بعدت تختفي المصارف والفواصل حتى لا يعود الإنسان يرى سوى مسطح واسع غير محدود من الظلام الأخضر، الذي يضيئه عدد لا نهاية له من فوانيس أزهار القطن الصفراء.
ومن بعيد لاح خط الأنفار لا تكاد تميزه عن الخضرة المتكاثفة التي يغمق لونها كلما بعدت حتى يستحيل إلى ظلام تام، لا تكاد تميزه إلا بأعمدة الدخان المتصاعدة من الحفر التي يحرقون فيها أوراق القطن المصابة باللطع.
وأرهق الحمار نفسه كثيرا وهو يضم رئتيه لينهق بآخر ما يستطيع، ومع أن فكري أفندي لا يقرأ كثيرا لأن القراءة تتعب عينيه، وعيناه لا تستطيعان تمييز الحروف جيدا مهما قربهما من الأوراق، إلا أنه في الغيط ثاقب النظر كالصقر. وهكذا - ورغم نهيق حماره - استطاع أن يلحظ أن الخولة يقومون فجأة من جلستهم في الظل وراء الأنفار، وترتفع خيزراناتهم في الهواء وتهوي على ظهور الأنفار أو عيدان القطن ضربا وطرقعة، وأصواتهم تأتي صارخة من بعيد: وطي يا وله، وطي يا بنت.
تلك تمثيلية يعرفها فكري أفندي تماما ومل من تكرارها، وما كاد موكبه يهل على «العمل» حتى اندفع أكثر من سائق من سائقي الأنفار يجري «وتلك في رأي فكري أفندي تمثيلية قديمة أخرى» يجري ليفوز بشرف إمساك الركوبة لحضرة المأمور وهو يهبط عنها.
قال فكري أفندي وهو يسحب منديله من تحت الطربوش ويجفف به عرقه وظهره: واد يا عرفة.
وعرفة ريس سواقي الأنفار، أي ريس الترحيلة، وهو الذي فاز بإمساك لجام الحمار هذه المرة، وهو الذي يفوز كل مرة، قال: العواف يا حضرة المأمور.
واحتار المأمور أيرد التحية فيبدو وكأن «البلفة» قد دخلت عليه أم يتجاهلها فيبدو قليل الذوق، وأيضا لم يفعل هذه أو تلك فهو قد جاء لمهمة عليه إنجازها، ولكي تبدو المسألة طبيعية كان عليه أن يسأل عرفة كما يسأله كل مرة: النضافة ازيها؟ - ع السنجة عشرة يا سعادة البيه.
وتجاهل فكري أفندي سروره باللقب وزغر له قائلا: وإن لقيت لطعة؟
فأمال عرفة رأسه ووضع كفه على عنقه وقال: برقبتي.
Halaman tidak diketahui