لاذ الشيخ بالصمت مستاء.
وكان عاشور يتابع الحديث باهتمام فصدم، صدمة متوقعة على أي حال، إنه يفعل ما بوسعه ولا يدعي أكثر مما له؛ يقوم بتنظيف البيت، وشراء الحوائج من السوق، ويمضي كل فجر بولي نعمته إلى الحسين، ويملأ الدلو من البئر، ويشعل الفرن، وعند الأصيل يجلس عند قدمي الشيخ فيحفظه ما يتيسر من القرآن، ويلقنه آداب السلوك والحياة. الحق أن الشيخ أحبه ورضي عنه، وكانت سكينة ترمقه بإعجاب وتقول: سيكون فتى طيبا وقويا.
فيقول الشيخ عفرة زيدان: لتكن قوته في خدمة الناس لا الشيطان.
5
جادت السماء ببركاتها على عاشور، فسعد به قلب الشيخ عفرة زيدان عاما في إثر عام، بقدر ما سخط على درويش شقيقه وربيبه. لم يا ربي وقد نشآ في حظيرة واحدة؟ ولكن درويش نأى عن ظل الشيخ سعيا وراء الرزق بعد أن رفض التعلم قلبه. انطلق إلى العالم غلاما طريا فتربى في أحضان المرارة والعنف قبل أن يستقيم عوده، قبل أن تتشرب روحه بالصلابة والنقاء. أما عاشور فتفتح قلبه أول ما تفتح للبهجة والنور والأناشيد، ونما نموا هائلا مثل بوابة التكية؛ طوله فارع، عرضه منبسط، ساعده حجر من أحجار السور العتيق، ساقه جذع شجرة توت، رأسه ضخم نبيل، قسماته وافية التقطيع، غليظة مترعة بماء الحياة. تبدت قوته في تفانيه في العمل، وتحمله لمشاقه، ومواصلته بلا ملل أو كلل، وفي تمام من الرضا والتوثب. وأكثر من مرة قال له الشيخ: لتكن قوتك في خدمة الناس لا في خدمة الشيطان!
وذات يوم أعلن الشيخ رغبته في أن يجعل منه مقرئا للقرآن مثله، فضحك درويش ساخرا وقال معلقا على رغبة شقيقه: ألا ترى أن هيكله الضخم جدير بأن يلقي الرعب في قلوب المستمعين؟!
ولم يحفل الشيخ بتعليق درويش، ولكنه اضطر إلى العدول عن رغبته عندما وضح له أن حنجرة عاشور لا تسعفه بحال، وأنها عاجزة عن تطويع النغم، لا حظ لها من الحلاوة والمرونة وكأنها بخشونتها ترن في جوف قبو، فضلا عن قصوره عن حفظ السور الطويلة.
وقنع عاشور بعمله كما قنع بحياته، وظن أنه سيبقى بالفردوس حتى آخر الأجل، وصدق ما قيل له من أن الشيخ تكفل به بعد وفاة والدين طيبين مقطوعين من شجرة، وحمد الله الذي قدر ولطف، فرعاه برحمة لا يستظل بمثلها مأوى آخر في الحارة. وفي ذات الوقت رأى الشيخ عفرة أنه استأثر به مدة كفت لتعليمه وتهذيبه، وأنه آن له أن يرسله لتلقن حرفة من الحرف، غير أن حتم الأجل كان أسرع؛ فمرض الشيخ بحمى لم تنفع في علاجها الوصفات الشعبية، فانتقل إلى جوار ربه ، ووجدت سكينة نفسها بلا مورد أو قدرة على العمل، فرحلت إلى قريتها بالقليوبية. كان الوداع بينه وبين سكينة مؤثرا ودامعا. قبلته ورقته ومضت، وسرعان ما شعر بأنه وحيد، في دنيا بلا ناس، اللهم إلا سيده العنيد درويش زيدان.
وأسبل جفنيه الغليظين متفكرا. شعر بأن الخلاء يلتهم الأشياء، وأنه يود أن يتسلق شعاع الشمس، أو يذوب في قطرة الندى، أو يمتطي الريح المزمجرة في القبو، ولكن صوتا صاعدا من صميم قلبه قال له إنه عندما يحل الخلاء بالأرض فإنها تمتلئ بدفقات الرحمن ذي الجلال.
6
Halaman tidak diketahui