55
تحدث أمور في السر والعلانية. الحارة الغارقة في نشاطها الدائب لا تفطن لها. قليلون جدا من يلاحظون أشياء دون أن يرتبوا عليها نتائج ذات بال، والقلوب ثملة بالآمال مؤمنة بالضياء.
وذات صباح خرج عليهم عاشور الناجي منكس الرأس. بجسمه العملاق، ولكنه منكس الرأس ومكبل اليد بقيد حديدي أيضا. هو عاشور الناجي دون غيره. يحف به جنود، يتقدمهم ضابط ويسير محمود قطائف في ذيل الموكب.
انتشر شرر الذهول الغاضب بين الناس، فشدهم من الدكاكين والبيوت وملأ بهم النوافذ. - ماذا نرى؟! - ماذا وقع للدنيا؟! - الرجل الطيب في الحديد!
وهتف الضابط بحدة: أوسعوا الطريق!
ولكنهم تجمعوا وراء الموكب وتبعوه كالظل، حتى صاح الضابط مرة أخرى: الويل لمن يقترب من القسم!
وجعل درويش الخمار يتساءل عن معنى ما يرى ويرفض تصديقه، وبصوت مرتفع قصد أن يسمعه عاشور قال: ورحمة أخي ما خرجت من لساني كلمة واحدة.
وتبدت فلة آية في الجمال والحزن، متوركة شمس الدين، حاملة بقجة، محمرة العينين من البكاء.
56
وكانت محاكمة عاشور من الأحداث المستعصية على النسيان. شهدها جمع غفير من الحارة، وخفقت لها القلوب. لأول مرة تحب الحارة وتعشق. ووقف عاشور في القفص مزهوا بحرارة القلوب من حوله. ولعل القضاة أعجبوا بعملقته، وبصورة الأسد المرسومة في صفحة وجهه. ولم ينس الناس صوته الأجش وهو يقول: لست لصا، لم أعتد على أحد، صدقوني. كان الموت قد أهلك الحارة. رجعت من الخلاء فوجدتها خالية، وجدت الدار بلا صاحب، ألا تستحق أن توهب للوحيد الذي نجا؟ ولم أستأثر بالمال لنفسي، اعتبرته مال الله، واعتبرت نفسي خادما له في إنفاقه على عباده، فلم يعد يوجد جائع ولا متعطل، ولم يعد ينقصنا شيء؛ فعندنا السبيل والحوض والزاوية. لماذا قبضتم علي كاللصوص؟ لماذا تعاقبونني؟
Halaman tidak diketahui