فسأله متجهما: ألست رجلا حكيما يا عبد الخالق؟
فبادر الرجل يقول: إن تفشت همسة واحدة فاعتبرني المذنب!
64
في جوف الليل تسلل إلى المئذنة. رقى سلمها درجة درجة حتى انتهى إلى شرفتها العليا. تحدى جو الشتاء القارس في تسلطه الشامل على الوجود. تطاول رأسه إلى مهرجان النجوم الساهرة المنتشرة فوقه كمظلة. آلاف الأعين تومض فوقه، وكل شيء تحته غارق في الظلام. لعله لم يصعد، ولكن قامته طالت كما ينبغي لها. عليه أن يرتفع، أن يرتفع دائما؛ فلا سبيل إلى النقاء إلا بالارتفاع. وفوق القمة تسمع لغة الكواكب، وهمسات الفضاء، وأماني القوة والخلود، بعيدا عن أنات الشكوى والخور وروائح العفن. الآن تشدو ألحان التكية أغنيات الخلود، وتعرض الحقيقة العشرات من وجوهها الخفية، وينكشف الغيب عن شتى المصائر. من هذه الشرفة يستطيع أن يتابع الأجيال في تعاقبها، وأن يلعب لكل جيل دورا، وأن ينضم بصفة نهائية إلى أسرة الأجرام السماوية.
65
وقاد رجاله ليؤدب أعداءه وليعيد إلى حارته مكانتها السابقة. في فترة قصيرة أحرز انتصارات باهرة على العطوف والحسينية وبولاق وكفر الزغاري والدراسة. كان يرمي بنفسه على خصومه فيتطايرون أمامه تسحقهم الهزيمة والذل. عرف بأنه القوة التي لا تقاوم، التي لا تجدي معها قوة أو شجاعة.
66
وتغير أسلوبه في الحياة؛ أصبح يأكل فيفرط في الأكل، ويشرب فيفرط في الشرب، ويدخن فيفرط في التدخين، وكلما غازلته غانية استجاب لها مستعينا بالسرية والستر، وسرعان ما تحرر من سطوة زينات فلم تعد إلا وردة جميلة في حديقة ملأى بالورود. وترامت أنباء مغامراته إلى المرأة فاشتعل بجوانحها جنون الغيرة والخسران، ورأت وجهها في مرآة المستقبل متلاشيا في ظلمة النسيان والضياع. طالما وجدت فيه الطفل البريء ذا المذاهب الخارقة. وفتحت لها براءته أبواب الأمل البعيد، فضمنت الحب وطمحت إلى الزواج. ولعل السلو عن الحياة نفسها أهون من السلو عنه وقد تجسدت فيه القوة والجمال والشباب والعظمة غير المحدودة. ولكنه خرج من عزلته مخلوقا آخر. مخلوقا يبهر بالقوة والجمال، ويرعب بالتقلب، والجنون والحنكة والاستهانة. وشعرت بأنها تدق وتنحل وتتضاءل، بل وتتلاشى أمام سيادته المرعبة المجهولة. ولم تجد ما تتذرع به حياله إلا الضعف والابتهال والهزيمة، ولكنه اعترضها بنعومة متكبرة، معتزة بشموخها، متعطفة بحنان بارد، متحصنة بتعال لا متناه، وقال لها: اقنعي بمنزلة تحسدين عليها.
ورأت أنها تذبل بقدر ما يزدهر، وأنهما ينطلقان في طريقين متضادين، فاحتقن قلبها بالحب والتعاسة.
67
Halaman tidak diketahui