وكان قرة قد نسي. لم يبق حيا إلا في قلب عزيزة، ولدرجة ما في خيال عزيز. وثمة حلم يقظة كان متعة تأملاتها، أن تجوب البلدان بحثا عنه، أن تعثر عليه، أو أن تكتشف بالبينة قاتليه، أن تنتقم، أن تعيد ميزان العدل إلى استوائه الأبدي، أن يستعيد القلب صفاءه.
46
وما إن جاوز عزيز العاشرة حتى طالبت عزيزة بأن يتدرب في محل أبيه. وسرعان ما وافق رمانة وهو يقول: أهلا بالعزيز ابن العزيز.
وعقب ذلك توفي إسماعيل البنان أبو عزيزة، فورثت عنه قدرا من المال لا بأس به، فقررت أن تكنزه ليستثمره عزيز في التجارة عندما يستقل عن عمه! وماتت أنسية عقب وفاة أبيها بعام ونصف، فخلت الدار من الأحباب. لم يبق إلا رمانة ورئيفة، والشيخة ضياء إن عد وجودها وجودا. وقد عجزت الشيخة عن مواصلة مسيرتها اليومية في الحارة فاعتزلت تماما في جناحها، وعند الأصيل من كل يوم كانت تدلي بالمبخرة من مشربية حجرتها، وحتى الدموع لم تعد تسعفها.
47
وينظر رمانة متأملا كلما وجد الفراغ.
ها هو عزيز يجلس في مكان أبيه بحجرة الإدارة. إنه يتقدم بخطوات ثابتة تنبئ عن رجاحة عقل. يطرق بلا شك باب المراهقة. صبي جميل مفعم حيوية. قامة طويلة رشيقة، عذب الملامح، يلوح القلق في عينيه كما يلوح التفكير. وبينهما مجاملة محسوسة ولكن بلا ألفة حقيقية . وثمة نفور أيضا يتوارى وراء الكلمة المهذبة والابتسامة الحلوة. حلوى كذبة أبريل المرة. مشحون بنفثات أمه السامة، وقد يستوي يوما عدوا ذا خطر! يتصور أحيانا أنه ابنه! ولا يتخلى عن تصوره رغم أن وجه الصبي مزيج متعادل من وجهي عزيزة وقرة، ولكن ما الفائدة؟ العبرة بالروح لا بالدم. إنه ابن أخيه، بل إنه عدوه، وهو لا يستطيع أن يحبه مهما تصور، وقد لا يقوم تصوره على أساس، ولعله لو علم بخواطره لازداد له كرها.
وقال له: إنك منطو على نفسك يا عزيز، لماذا؟
حدق فيه الصبي بحيرة كأنه لم يفهم، فقال: أين أصدقاؤك؟ لم لا تخالطهم في الحارة؟
فتمتم: أحيانا أستقبلهم في الدار. - هذا لا يكفي.
Halaman tidak diketahui