لم ينفق عبد الباسط من نقوده إلا في أيام شهر العسل، ثم قال لها بصراحة حادة: أنت غنية وأنا فقير، والتعاون مشروع بين الزوجين.
واحتجت على موقفه، واعتبرته استهانة بحبها، ولكن لم يجد الاحتجاج شيئا. كلاهما يتسم بالعنف والعناد، وهي لا تفكر في التضحية بحياتها الزوجية الجديدة بعد أن عانت في سبيلها ما عانت.
ولم يقنع عبد الباسط بذلك فكان يقترض منها عند الضرورة، وتراكمت القروض دون أن يلوح أمل في السداد، ونشبت بسبب ذلك خصومات وتبودلت لعنات. الضرب أيضا تبودل، والعنف احتدم أيما احتدام، ولكن تيار الحياة لم ينقطع. وحملت أمواجه المتتابعة الملاطفات والتنهدات والرغبات مع السباب واللطمات. وجاء الوليد في أعقاب وليد حتى اكتمل لها ستة. الشيء الوحيد الذي لم يمسه التغيير كان حرصها الأبدي على أنوثتها وجمالها.
55
وتمر الأيام، وتنمو الحياة وتتفرع، وتتجمع المصائر في الأفق.
56
وكان سماحة بكر الناجي يعاني الحياة وهو يسمع صلصلة عجلة الزمن تجد وراءه. إن الإنسان يشقى بساعة انتظار، فكيف إذا صارت الحياة كلها مفرغة إلا من انتظار متواصل؟ ومن أول الأمر صمم على ألا يقيم في مكان واحد. عمل بائعا سريحا يجول بين القرى، مرسلا لحيته وشاربه، مخفيا عينه اليسرى بزعم العور. وظل يسجل مرور الأيام في دفتره السري، ويسجل أيضا أعمار أولاده رمانة وقرة ووحيد. وتركزت أوقات فراغه في تذكر أسرته، محاسن وأولادها. وفي أعقاب الجهد والعناء، قبيل النوم، يتعزى بالأحلام. الحلم باليوم الموعود، يوم النجاة من المشنقة والعودة إلى الأهل، يوم يرجع إلى حارته مشهرا عصا التأديب، باعثا من ظلمات الحاضر عهد الناجي بعدله المرموق. وتحدثه نفسه أحيانا إذا اشتد خفقان قلبه بالحنين أن يزور أهله متخفيا في ثياب امرأة، ولكنه يكظم أشواقه، وينثني عن عزمته، متقهقرا أمام العواقب الوخيمة الجديرة بإهدار صبر الأعوام.
وعاش وحيدا، بل عاش في ظل أطياف متجسدة لا تبرحه. أطياف الظلم والحنان والحرمان والخوف المستمر من انكشاف أمره. واعتاد محاورة نفسه وأطيافه. يحاورها من خلال الصمت، أو بصوت يسمعه الخلاء والشجر والنيل. وجن مرة إذ خيل إليه أنه يرى محاسن. وحلم مرة بأنه التقى بمحمد توكل في سوق الدومة. وخير أحلامه ما رأى فيه سيدنا الخضر، ومن عجب أنه لم يبق من الحلم شيئا سوى ثقل في القلب وحزن في الوجدان، وأمل غامض، وقال لنفسه: إنه لا يجيء إلا لخير.
وقال أيضا: لا يوجد ألم بلا معنى، وسوف يجيء الضياء ذات يوم. الحق أنه كان قد فقد كل شيء؛ فإن شجاعته لم تنضب وقوته لم تهن. لعله يزداد بالإصرار شجاعة وقوة، ويزداد بالشجاعة والقوة إصرارا، ولكن ماذا صنعت الدنيا بمحاسن ورمانة وقرة ووحيد؟ سيرجع ذات يوم فيجدهم رجالا في الدكان. سينظرون إليه بذهول أول الأمر، ولكنه لا يمكن أن يمحق من ذاكرتهم.
وكلما مر عام تنهد قائلا: ها هو الجبل يتزحزح!
Halaman tidak diketahui