Haqiqa
الحقيقة: وهي رسالة تتضمن ردودا لإثبات مذهب دارون في النشوء والارتقاء
Genre-genre
فالحرارة والنور والصوت إنما هي اهتزازات ارتجاجية في الأولين، وتموجية في الأخير، والظواهر الكهربائية والمغناطيسية تتم بتغيرات نسبية في أجزاء المادة وجواهرها الفردة، ولأجل ذلك عرف العلماء القوة بأنها خاصة من خصائص المادة، أو هي الحركة، أو هي حالة من حالات المادة، وأنه يستحيل إدراك القوة بلا مادة، كما أنه يستحيل البصر بلا عين، أو الفكر بلا دماغ، أو القول بقوة مفرزة بلا غدة، أو بقوة انقباضية بلا ليفة عضلية، فلا شيء أمكنه في زمان من الأزمنة أن يدلنا على وجود قوة سوى التغيرات التي ندركها في الأجسام بواسطة حواسنا، وعلى هذه التغيرات المرتبة حسب نسبها، والمسماة بأسماء مختلفة، يطلق اسم الجنس «القوة»، وليس سوى هذه الواسطة لفهم المعنى المراد بهذه اللفظة، فما هي إذن النتيجة الكبرى الفلسفية لهذه المعرفة البسيطة الطبيعية.
لا شك أن الذين يقولون بوجود قوة أبدعت العالم من لا شيء لا يستندون في قولهم هذا إلى شيء من العلوم الطبيعية والفلسفة العملية، التي تتبع العلم في سيره، وتتغير مع تغير الأفكار بتغيره، وإنما يفعلون ذلك انقيادا لفلسفة موهومة نشأت عن نقصان الاختبار في سالف الأزمان، ورسخت في العقل حتى كادت تكون ثابتة فاعتبرت غريزية، وحجتهم الكبرى هي أنه لا بد لكل معلول من علة.
وقد فاتهم أنه في هذا الدور المتسلسل لا بد لهم من الوقوف عند نقطة يثبتون فيها حصول الوجود بالمعجزة، إلا أنهم عوضا عن أن يقفوا فيه عند حد الأبحاث الطبيعية المؤيدة بالاختبار، ويثبتوه للمحسوس يطفرون به إلى ما وراء الطبيعة، ولو فاتهم الدليل ونقصهم البرهان، فمن أين عرفوا أن القوة قد توجد مجردة عن المادة، والحال أن المادة لا تنفصل عن قواها، أم كيف جاز لهم التصديق بوجود شيء من لا شيء، وهل ضلال أشد من هذا الضلال على العقل؟ فتكون العالم من العدم أمر مستحيل لا يقبله العقل، ولا يثبته الاختبار.
والعدم لفظة لا معنى لها، ومن المقرر أن المادة دائمة الوجود لا تتغير، وهذا يقتضي كونها قديمة، ولو فرضنا وجود قوة مبدعة لما أمكن وجودها باعتبار الزمان لا قبل الخلق ولا بعده. لا قبل الخلق؛ لأن ذلك يقتضي بقاءها مدة من الزمان بلا عمل، وفي حالة السكون أمام المادة اللاصورة لها والساكنة أيضا. وهذا غير سديد. ولا بعده؛ لأن هذا ظاهر البطلان، فإذا كانت القوة المبدعة لا تقدر أن توجد قبل الأشياء ولا بعدها، وإذا كانت المادة لا تدثر، وإذا لم تكن مادة بلا قوة، ولا قوة بلا مادة، فلا شك أن العالم قديم، فما لا ينفصل لم يكن منفصلا، وما لم يدثر لم يبدع.
الفصل الثاني
في الوجود المعنوي والوجود المادي
وأما مثل المعاني والألفاظ الذي ضربته للوجود المعنوي السابق والوجود المادي المسبوق، فقول غير سديد، وفيه من السفسطة ما كان يغنيك تدبره عن إسهاب الشرح عليه؛ لأن أسبقية المعنى على اللفظ نسبية كما لا يخفى عليك، وأنت تريد بتقديم الوجود المعنوي على الوجود المادي أسبقية مطلقة، وإلا فأي مثل غير هذا المثل يقوم مقامه؟
وهو لا يفيد شيئا في تأييد ما تذهب إليه كمثل الأسباب والمسببات عموما، فإن ما كان منها علة لشيء، فهو نفسه معلول لشيء آخر، فالسبق هنا نسبي لا مطلق، وأنت لم تنكر علينا ذلك، حيث استدركت على نفسك بما معناه: «وربما اعترض علينا أن المعاني حاصلة من تأثير المادة في الدماغ.» وإنما نحن ننكر عليك اعتمادك عليه بعد عرفانك ذلك، فأنت هنا تسلم معنا بأن المعاني في العقل ليست غريزية، بل مكتسبة وصادرة عن المادة بواسطة الحواس، وإن كان عندك أدنى شك في ذلك فنحن نقول لك: إن المعنى العقلي ليس إلا تأثيرا ماديا، أو هو صورة المادة المرتسمة في الدماغ - كما ترسم الصورة في المرآة - فالنور لولا العين لم يكن له في عقل الإنسان معنى ، ولم يفتكر الإنسان أن يضع له علامة أو لفظة تدل عليه.
ولو صح هذا القياس على الوجود المطلق لكان الأولى أن تعتبر المادة قبل معناها في العقل؛ لأنها أسبق منه من حيث هذا الوجود النسبي، فأسبقية المعنى على اللفظ كأسبقية المادة على المعنى نسبيا. وأما إذا اعتبرت الحقيقة، فالمادة لا تنفصل عن معناها، ولا يقصد بالمعنى ما ندركه فقط، فالأعمى لا يبصر النور، فهو لا يتصوره ولا يعرف له معنى في عقله، ومع ذلك فمادة النور متصلة بمعناها، وعدم إدراك الأعمى لها لا يسلخ عنها وجود المعنى فيها، وعدم وجود المعنى في أركان لفظه؛ أي الحروف عوضا عن أن يكون حجة علينا، فهو حجة لنا، فالألفاظ تدل على معان لا تدل عليها حروفها دلالة صريحة.
كما أن المواد المركبة تكون ذات خصائص لا تدل عليها عناصرها دلالة واضحة، فقياسك هذا إذن فاسد. واعلم أن الدلالة على المعاني لا تقتصر على الألفاظ فقط، بل تتناول كل حركات الجسد، وربما اقتصرت عليها في الحيوانات الدنيا التي لا يسمع لها صوت، وبهذا الاعتبار تكون الحركات من قبيل اللغات، فاللغات أعم من إبداء المعاني بالألفاظ، التي هي حركات خصوصية صوتية يشترك في تقطيعها أعضاء الحلق واللسان والشفتين، وترافقها حركات موافقة لها في سائر أعضاء الجسد، تظهر لك في البعض، وتخفى عنك في البعض الآخر.
Halaman tidak diketahui