وأفقت على يد تسحبني، وصوت يقول لي: «هيا بنا نعد.» وعدت مع اليد التي سحبتني أنظر إلى الحياة شزرا، وأسخر في أعماقي من جريهم وحماسهم، وأقول لهم في نفسي: «كفى، كفى ... كفاكم جهلا وجريا، ألا تعلمون ما نهايتكم؟ حفرة في التراب، تراب يهال عليكم، تراب في تراب!»
ولم ألبس السواد، كان موت أبي، بل مشكلة الموت نفسها تشغل تفكيري كله، حتى إنني كنت أضع ملابسي على جسمي بلا وعي، ولا أكاد أعرف لون الرداء الذي أرتديه.
وجاءني صوته في التليفون حزينا، معزيا، مخففا. والحقيقة أن هزة الموت أنستني هذا الصوت فترة، لكني رغم ذلك كنت أنتظره، كنت أتلمس شيئا قويا من الحياة يعيدني إليها، شيئا عنيفا يهزني فتسقط عني، بعض الشيء، غشاوة الموت القاتمة، وما من شيء يستطيع أن يفعل ذلك إلا الحب.
وقلت له وأنا أتشبث ببقايا حماس في قلبي: «أريد أن أراك.» قلتها ببساطة، وكانت المرة الأولى التي أقول له فيها أريد أن أراك. كنت أشعر أحيانا برغبة في النطق بها، لكن شيئا ما في أعماقي يمنعني، فأقول شيئا غيرها، أو عكسها، أو لا أقول شيئا على الإطلاق، لكني بعد أن شهدت الموت، رأيت الحياة أبسط وأتفه من أن أكتم في صدري كلمة أريد أن أنطق بها.
ودعاني إلى بيته، وترددت قليلا، ثم وافقت. ولبست ملابسي بإهمال، زاد بعد موت أبي عما عهدته في نفسي، ولم أضع على وجهي أية مساحيق، ونظرت إلى عيني طويلا في المرآة، وقلت لنفسي: «ليس في الحياة شيء يبعث على الذعر، حتى ذهابي إلى بيته!»
ووصلت إلى بيته دون مشقة كبيرة، وفتح لي الباب، ورأيته لأول مرة بعد موت أبي، ولا أدري تماما ماذا كان وقع منظره علي، وهو في بيته، هل ضاعت هيبته الجميلة، التي كنت أهواها فيه، أم إن موت أبي أضاع هيبة الحياة، بكل ما فيها حتى هو؟!
وقال بعد أن تكلمنا قيلا: «لم أرك فاترة كاليوم!»
وقلت: «لقد جعل الموت الحياة باهتة في عيني.»
فقال: «بالعكس، إن الموت يجعل الحياة في عيني زاهية. تصوري لو أننا نعيش إلى الأبد، كيف تكون هناك حياة إذا لم يكن هناك موت؟ وعلى كل فإن الموت مصيره إلى الموت، كما قال طاغور.»
واقترب مني قليلا، وقال: «لم أكن أتصور أن شيئا ما في العالم، يستطيع أن يغرس الحزن في عينيك، لم يكن التشاؤم أحد صفاتك.»
Halaman tidak diketahui