ومضى في طريقه لا يلوي على شيء هائجا ثائرا كالزوبعة، وركب الترام ونزل منه، واستقل القطار وهو يحدث نفسه ويتهدد ويتوعد ويتجرع غصص الندم والأسف.
وأراد الله ستره فأعاد النقود إلى مكانها، ومحا أثر الجريمة بيديه، ونجا من شر عظيم.
وقد ظن أن الدرس القاسي الذي تعلمه كفيل بأن يجتث من نفسه كل ما كان من ميل أو عاطفة نحو نور الحياة وأمثالها جميعا، ولكنه حين عاودته طمأنينته وسكونه وجد عقله ينزع به إلى روض الفرج، وقد غالط نفسه وقاوم نزوعه، ولكنه وجد عقله مجبرا على التفكير والتذكر، فساءل نفسه: ماذا فعلت نور الحياة مما استحق من غضبي؟ ألأنها توددت إلي؟ فهذه صناعتها وفنها، أم لأنها أشفقت على نفسها من عواقب جريمتي؟! فهذا ما ينتظر من أي إنسان مهما كان أدبه وكان تهذيبه. وربما كان من الطبيعي أن أغضب بعد أن منيت بالخيبة وذهبت تضحيتي هباء، ولكن لم يكن طبيعيا قط أن أصب عليها جام غضبي، وماذا فعلت هي تلقاء ذلك؟ لا شيء، لقد لطمتها وبصقت عليها، فماذا فعلت وهي القادرة على «البهدلة »؟
ومضت الأيام تلو الأيام، وانتظر على رجاء أن يمحو الزمن من نفسه تلك الذكرى المؤلمة. وكان يجد في أعماقه عاطفة غريبة لم يعترف بها قط، وطالما غالط نفسه فيها، ولكن ربما غلبته على أمره أحيانا فيتنهد حزنا ويقول لنفسه آسفا محسورا: «ليتني لم أمدد لها يدي بسوء.»
هذا القرن
انتصف الليل، وخيم السكون، وشمل الصمت الدور والطرقات، وانتشرت أنوار المصابيح الباهتة كأنها تؤنس وحشة الأشجار المغروسة في الأفاريز.
وقد مزق السكون الآمن بوق سيارة أتت مسرعة من مبتدأ شارع العباس، ثم وقفت أمام الباب الحديدي المغلق لفيلا آية في الأناقة والجمال. ونفخ السائق في البوق مرات، فخرج البواب من كوخه الخشبي وفتح الباب، واندفعت السيارة إلى داخل الحديقة التي لا يبدو منها إلا أشباح الأشجار، ودارت دورة غير كاملة، وصعدت منحدرا ثم وقفت أمام الباب الداخلي للقصر، ونزل السائق مسرعا، وضغط على مفتاح كهربائي على كثب من الباب فأضاء مصباحا وأرسل نورا أزرق هادئا، ثم فتح باب السيارة ووقف كالتمثال.
وانتظر لحظات وثواني ودقائق، ثم أخذه العجب فأرسل ناظريه إلى داخل السيارة، فرأى الباشا وزوجه مستغرقين في نوم ثقيل، وكانت السيدة ملقية برأسها إلى الركن، وجسمها الضخم الهائل ممدودا، يبدو في الفستان اللامع الملتصق به، كفرس البحر؛ وكان الباشا مسندا رأسه إلى كتفها يحسبه من رآه لضآلة جسمه ونحافته وقصر قامته غلاما صغيرا، لولا شاربه الغليظ الطويل الذي يرسم مع جسمه الدقيق صورة صليب متساوي الأطراف على وجه التقريب.
ولم ير السائق بدا من إيقاظ سيده، فقال بصوت خافت: سعادة الباشا .. سعادة الباشا.
فلم يبعث نداؤه فيهما أي أثر للحياة، فرفع الرجل صوته قائلا: سعادة الباشا.
Halaman tidak diketahui