لن تزالوا كذلكم ثم لا زل ت لكم خالدا خلود الجبال
وقولهم للأثافى، وهى الحجارة التى تنصب عليها القدور خوالد، وللأحجار التى تبقى بعدد رءوس الأطلال. ولو كان موضوعا للدوام لكان لفظ أبدا تأكيدا للخلود إذا ذكر معه والأصل عدمه، فلا يحمل على خلاف الأصل بلا دليل، بل قام الديل على أنه لمطلق الثبوت الطويل، وكذا لو جعل الخلود موضوعا للثبوت الدائم، وموضوعا للثبوت غير الدائم، على طريق الاشتراك، كوضع القرء للحيض ووضعه للطهر، لكان اشتراكا والأصل عدمه، فلا يحمل عليه بلا دليل، ولو جعلناه مجازا فالثبوت غير الدائم لكان ذلك أيضا خلاف الأصل بلا دليل، فلم يبق إلا أن يقال موضوع لمطلق الثبوت الطويل من يعتبره فى وضعه الدوام ولا عدمه، كما وضع الجسم لنقيض العرض لا باعتبار كونه حياة أو مواتا. وأعلم أن معظم اللاذت المطعم والمنكح والمسكن، فأعطاهن الله الرحمن الرحيم أهل الجنة، وأتمها بالخلود الدائم، لأن النعمة الجليلة إذا كانت تزول فهى غير تامة وهى منفضة، وإن قلت كيف يكون جسم الإنسان والحور والجن وأشجار الجنة وبناؤها دائما، مع أنه مركب والتركيب داعى الانحلال، ولا سيما الإنسان، فإن اجزاءه متضادة الكيفية فتستحيل؟ قلت إنما كان التركيب داعى الانحلال والأجزاء مضادة الكيفية يجعل الله سبحانه إياها كذلك، فاذا أراد جعل التركيب غير داع للانحلال، وجعل تضاد الكيفية غير داع للاستحالة، بل يجعلهما داعيين للانعقاد والدوام، أو يبعث الإنسان غير مضاد الكيفية وبيعته ومتقادمها ومتساويها متعانقها لا يغلب بعض بعضا، ولا ينافر بعض بعضا، لكن كلامنا فى هذا هجوم على الغيب بمجرد ما ألفته عقولنا القصيرة.
ومن كانت أشجاره قليلة الإثمار فليصم الخميس ويفطر فى المغرب على هندبا، ويصلى المغرب، ثم يكتب هذه الآية { وبشر الذين آمنوا } إلى { خالدون } فى قرطاس، ولا يتكلم ويمضى إلى شجرة تكون فى وسط البستان ويعلقها عليها، فإن كان فيها ثمر فليأكل منها واحدة، وإن لم يكن لها ثمر فليأكل ورقة من ورقها، وإن لم يكن لها ورقة فليأكل من ثمر مثلها، ويشرب عليها ثلاث جرعات من ماء، وينصرف، فإنه يرى ما يسره من حسن الثمرة والبركة إن شاء الله.
[2.26]
{ إن الله لا يستحى } لما نزلت تشبيه حال المنافقين المستوقدين، وأصحاب الصيب، وتشبيه عبادة الأصنام فى الوهن والضعف ببيت العنكبوت، وجعلها أقل من الذباب وأخس قدرا منه. قالت اليهود والمنافقون من نحا نحوهم من كفار قريش الله أعلى وأجل من أن يضرب الأمثال، ويذكر الذباب والعنكبوت، فنزلت الآية. ومن علم من اليهود أن ضرب المثل بذلك ونحوه حق، وأنه أظهر فى الأفهام، وأن مثله فى التوراة، فإنما قيل ذلك عنادا. روى أن اليهود قالت ما أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة؟ وعن الحسن وقتادة لما ذكر الله الذباب والعنكبوت فى كتابه، وضرب للمشركين به المثل، ضحكت اليهود وقالوا ما يشبه هذا كلام الله، فنزلت الآية. وقيل قال المشركون إنا إنا لا نعبد إلها يذكر هذه الأشياء. وكل من ذلك يصدق عليه قوله تعالى { ماذا أراد الله بهذا مثلا }؟ لأن هذا استفهام إنكار، أنكروا أن يريد الله تمثيلا بذلك، وليسوا منكرين أن الله موجود، ولا مقرين أن الله نزله، ولكن كنوا بذلك عن تكذيبه - صلى الله عليه وسلم - فى قوله إن ذلك من الله عز وعلا كأنهم قالوا لو كان ما تتلوا علينا من الله، لما كان فيه ذكر تلك الأشياء. وكذلك أنكروا أن يذكر الله النحلة والنملة. والاستحياء استفعال من الحياء، والحياء فى شأن المخلوق انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم، وهو بين الوقاحة التى هى الجراءة على القبائح وعدم المبالاة، وبين الخجل الذى هو انحصار النفس عن الفعل مطلقا، وهو مأخوذ من الحياة، فإن الإنسان إذا كان فيه حياء شبيه بمن ضعفت حياته، لأن الحياء انكسار يعترى القوة الحيوانية، فيردها عن أفعالها، كما قيل نسى أى اعتل عرق النساء فيه، وحشى أى اعتل بطنه. فكذلك يقال حيى، أى ضعفت قوة حياته، والسين والتاء والهمزة، مبالغة وهى راجعة إلى النفى أى انتفا انتفاء بليغا عن الله أن يوصف بالحياء عن ضرب المثل بنحو البعوضة، والحياء فى حل الله هو ترك الشىء إطلاقا للملزوم على اللازم، فإنه يلزم من حياء المخلوق من فعل الشىء أن يتركه، وقد استعمل كذلك إطلاقا على لازمه فى قول المتنبى أبى الطيب من قصيدة بمدح بها أبا الفضل محمد بن الحسين بن العميد يصف نوقا
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه كرعن بسبت فى إناء من الورد
والنون فى استحين للنوق يقال استحيت بياء واستحييت بياءين، وقد قرأ ابن كثير فى رواية شبل يستحى بياء واحدة ساكنة سكونا ميتا بعد الحاء المكسورة، والاسم مستح كمهتد بحذف الياء. ومن قال يستحيى بياءين قال فى الاسم مستحى كمهتدى أيضا بحذف الثانية، والمعنى إذا ما تركن ورد الماء، ويعرض نفسه حال من الماء، وكرعن جواب إذا، والكرع الشرب بالفم من محل الماء، أو يعرض جواب إذا وكرعن، بدل يعرض، أى كرعن فيه، وهو بدل اشتمال، فإن إعراضه نفسه متضمن لأن يكرعن فيه، والسبت جلد البقر المدبوغ بالقرظ، وإناء الورد موضع ماء المطر المحفوف بالأزهار، شبه بإناء الورد، كما شبه مشافر الإبل بالجلد المذكور، فإطلاق لفظ الملزوم على اللازم مجاز مرسل.
ويجوز أن يكون يستحين مجازا بالاستعارة، بأن يكون شبه حالهن التى خيل فيها بعض النفور، ويحال من يستحيى فيترك، وإن قلت الاستحياء منفى عن الله فى الآية، فلا مانع من تفسيره بحياء المخلوق، لأنه فى الآية منفى، كما تنفى عنه صفات المخلوق، فلا حاجة لتأويله بالترك؟ قلت قد قيل ذلك لكنه لا يصح، لأنه لم ينف فى الآية نفيا مطلقا بل نفيا منصبا على القيد، وهو كون المثل نحو بعوضة، فلو فسر بحياء المخلوق ونفى لتوهم أنه يستحيى حياء الملخوق فى غير ذلك المثل، أو توهم مكان حياء المخلوق فيه، كما لو قيل لا يأخذ الله نوم فى هذه الليلة لتوهم أن النوم جائز عليه فى الجملة، وأنه نائم فى غير هذه الليلة، تعالى عن ذلك وعن كل نقص. وقد وصف الله تعالى بالحياء على التأويل المذكور فى قوله صلى الله عليه وسلم
" إن الله حى كريم يستحى إذا رفع العبد يديه إليه إن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا "
رواه أبو داود والترمذى وحسنه، وعنه صلى الله عليه وسلم
Halaman tidak diketahui