وختم على سمعه وقلبه
فجمع القلب والسمع فى الختم ويدل على ذلك أيضا الوفاق على الوقف عليه، والإضافة فى سمعهم للحقيقة أو للاستغراق فكأنه جمع كما جمع القلب ولو أفرد القلب على نية تلك الإضافة لجاز، ولكن خص السمع بالإفراد لأنه فى الأصل مصدر يستعمل فى مقام الأذن، والكلام فيها والمصدر يكفى بلفظ المفرد مع أنه لا يتوهم الإفراد فيه. والقلب ولو كان إفراده لا لبس فيه لكنه مصدرا مستعملا، فى مقام القلب الذى به يعقل، بخلاف السمع فإنه يقال سمع بأذنه سمعا، ولا يقال قلب بقلبه قلبا، ولو كان أيضا فى الأول مصدرا. والسمع بمعنى الأذن ويجوز إبقاؤه على المعنى المصدرى، فبقدر مضاف أى على حواس شمعهم أو آلات سمعهم أو نحو ذلك مثل أن تقول وعلى مواضع سمعهم وهى داخل الأذن الذى خلق الله سبحانه فيه إدراك الأصوات. ولفظ السمع يطلق على إدراك الصوت، وقد يطلق مجازا على القوة السامعة الموضوعة داخل الأذن، وعلى الأذن. ولعله المراد فى الآية، لأنه أشد مناسبة للختم فإن الذات مثل الإناء أشد مناسبة له من المعانى ولهذه العلة يختار تفسير القلب بالعضو المخصوص، وهو محل العلم. وقد يطلق علىالمعرفة كما قال بعض فى قوله عز وجل
إن فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب
وعنه - صلى الله عليه وسلم -
" إن العبد إذا أذنب نكتت نكتة سوداء فى قلبه. فإن تاب وفزع واستغفر صقل قلبه، وإن زايد زادت حتى تعلق قلبه "
لذلك الرين الذى قال الله تعالى
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون
رواه الطبرى وقال مختصر هذا الحديث يدل على أن الختم على الحقيقة. { وعلى أبصارهم غشاوة } على أبصارهم خبر، وغشاوة مبتدأ، أى على أبصارهم تغطية مشتملة عليها، حدثت بانهماكهم فى التقليد وإعراضهم عن النظر الصحيح فلا يبصرون إبصارا نافعا مؤثرا في القلب كأنه غطى على عيونهم، فكانت لا تبصر أصلا، كما كانت أسماعهم. كأنه غطى عليها، فكانت لا تسمع إذ كانوا لا يستمعون الآيات وينفرون عنها، وإذا سمعوا لم يؤثر فيهم كأنهم لم يسمعوا. ولما كان البصر يختص إدراكه بما قابله فقط ولو من جنب، ولا يدرك ما لم يقابله، جعل المانع للأبصار عن فعلها الغشاوة المختصة بتلك الجهة. والأبصار جمع بصر، وهو إدراك العين، وقد يطلق مجازا على القوة الباصرة الموضوعة فى العين، وعلى العين. ولعل المراد فى الآية العين لأنها من حيث إنها ذات كوعاء أنسب فى الختم وإنما أميلت ألف أبصارهم والفتح المتولدة هى منها مع أن الصاد قبلها، والمفتوح هو الصاد لأن الراء المكسورة تغلب حرف الاستقلاء لما فيها من التكرير، كأنها حرفان مكسوران، وجملة على أبصارهم غشاوة من المبتدأ والخبر مستأنفة أو حال، أو معطوفة على الجملة الفعلية عطف اسمية على فعليه، ويجوز على مذهب الأخفش المجيز أن يرفع الظاهر فاعلا ولو لم نعتمد أن يكون غشاوة فالعلا لقوله على أبصارهم، لنيابة الظرف على قوله عن، ثبتت فيكون عطف فعلية على فعلية، وقرىء بنصب غشاوة بمحذوف، أى وأثبت على أبصارهم غشاوة، أو واجعل على أبصارهم غشاوة، فيتعلق على بذلك المحذوف، أو النصب بختم على نزع الخافض، وعلى متعلق بختم المذكور بواسطة العطف، أو بختم محذوفا أى ختم بغشاوة، قرىء غشاوة بكسر الغين وفتح التاء وبفتحهما وبضمهما، وغشاوة بكسر الغين وإسكان الشين وضم التاء، وغشاوة بفتح الغين وإسكان الشين مع ضم التاء، ومع فتحها، وعشاوة بالعين المهملة مكسورة، وضم التاء من عشى يعشى كعلم يعلم إذا صار يعشى لا يبصر ليلا، أو من عشاء يعشو كدعا يدعو إذا جعل نفسه كأنه أعشى، قال جل وعلا
ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا
{ ولهم عذاب عظيم } اللام للاستحقاق أى أعد الله لهم عذابا عظيما استوجبوه بكفرهم، والعذاب الإيلام الفادح، ويطلق أيضا على الألم الفادح، وهما جائزان فى الآية وغيرها، والعذاب والتعذيب مستعملان بالوجهين، وسواء كان ذلك الإيلام أو الألم عقابا كما فى الآية عما يردع الجانى من المعاودة أو لم يكن عقابا كذلك، وأصلهما أن يستعملا عقابا، وأصل هذا الأصل أن يستعملا بمعنى الإمساك عن الشىء، ويقال ماء عذب أى مبعد عن العطش ممسك عنه، ولذا يقال نقاح أى يكسر العطش، وفراث أى يسكن العطش، والعذاب أعم من العقاب والنكال، أما العقاب فواضح، وأما النكال فلأنه إما بمعنى العقاب، وإما بمعنى الإمساك عن الشىء وقيل العذاب مأخوذ من التعذيب الذى هو إزالة العذاب، كما يقال قذيت العين بالتشديد، بمعنى أزلت قذاها وأخرجته، فإن التفعيل والإفعال يكونان للسلب، يقال أقردت البعير أزلت قراده، وأعذرن خالدا أزلت عذره، والعظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، فالعظيم فوق الكبير، كما أن الحقير دون الصغير، فالحقير إذا كان مقابلا للعظيم، والصغير مقابلا للكبير، كان العظيم فوق الكبير لأن العظيم لا يكون حقيرا، والكبير قد يكون حقيرا، كما أن الصغير قد يكون عظيما، والمراد أن لهم على كفرهم عذابا يقصر عنه ما عداه من العذاب، ويحتقر بالنسبة إليه. وتنكير عذاب عظيم، وغشاوة للتعظيم كأنه قيل إن على أبصارهم نوع غشاوة، وليس مما يتعارفه الناس، وهو التعامى عن الآيات التى تظهر لمن دونهم فى الفهم والفصاحة، ولهم من العذاب نوع لا يعلم غايته إلا الله.
Halaman tidak diketahui