{ والمساكين } جمع مسكين، ومسكين جمع كمفعيل من السكون كالفقر أسكنه، وإنما جمع اليتيم والمسكين دون القريب مراعاة للقربى، فإنه مفرد فكان إفراد ما أضيف إليه أولى من أن يقال وذوى القربى، ولكن المراد الجنس فكأنه قيل وذى القربى. { وقولوا للناس حسنا } بضم الحاء وإسكان السين، أى كلاما ذا حسن، فحسنا مفعول به بمعنى اذكروا للناس كلاما ذا حسن، ويجوز أن يكون مفعولا مطلقا، أى تولا ذا حسن، ويجوز تقدير القول بمعنى المقول، فيكون أيضا مفعولا به، ويجوز ألا يقدر مضاف، ولكن بولغ فى حسن القول أو الكلام حتى كأنه نفس الحسن، كقولك زيد صوم عدل علم، ويجوز تأويله بحسن يفتح الحاء والسين الذى هو وصف، وقد قرأ حمزة والكسائى ويعقوب حسنا بفتح الحاء والسين، ونقول إنه وصف كما قال الزجاج ويحتمل أن يكون مصدرا، وبه قال الأخفش كحسن بضم فإسكان. وقرأ بعض حسنا بضم الحاء والسين جميعا وهو لغة الحجاز، فإن حسنا بفتحهما يكون وصفا ومصدرا، كما يقال على المصدرية رشد بضم فإسكان، ورشد بفتحتين وكل ذلك مصدر، وقرأ حسناء كحمراء، وحسنى كفضلى، فيحتمل أن الوصف أى قوله أو كلمة حسناء وحسناء والمصدر كبشرى ورجعى، وإن قلت ما القول الحسن؟ قلت الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بلين فى محل يصلح فيه اللين، وبغلظه حيث تصلح الغلظة، وتعليم الناس ما نزل فى التوراة ومكارم الأخلاق، والتكلم فى المعاشرة وملاقاة الناس بما لا يضرهم ولا ينفرهم عند الحاجة إلى التكلم، وذلك خطاب لليهود فى زمان موسى، ويكون من بعدهم فى حكمهم، أو لكل من يصلح للخطاب فى زمانه أو بعده، وذلك خطاب فى التوراة، ولا يبعد أن يكون { قولوا للناس حسنا } مع ما قبله وما بعده خطابا لليهود فى زمان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأخذ الميثاق عليهم تكليفهم بما فى التوراة من عبادة الله وحده، وما ذكر بعدها وعلى هذا يكون الحسن ما تقدم ذكره، فهو شامل للإيمان بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والإخبار بصفاته كما هى بلا تغيير، وقال محمد بن على بن الحسين بن أبى طالب، قولوا لهم إن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روى عن ابن عباس وابن جريج أن المعنى قولوا حقا وصدقا فى شأن محمد صلى الله عليه وسلم فمن ساءلكم عنه فاصدقوه وبينوا صحته ولا تكتموه، وفى رواية عنه قولوا للناس لا إله إلا الله، ومروهم به ولعله مثل بذلك تمثيلا، وقال سفيان الثورى معناه مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر. وقال أبو العالية قولوا لهم الطيبات من القول وحاوروهم بأحسن ما تحبون أن تحاوروا به، وهذا حض على مكارم الأخلاق قال عطاء قولوا للناس ما تحبون أن يقال لكم، قال ابن جريج قلت لعطاء إن مجلسك هذا يحضره البار والفاجر أفتأمرنى أن أغلظ فيه على الفاجر؟ فقال لا ألم تستمع إلى قوله تعالى { قولوا للناس حسنا } وليس المراد تليين القول للفاسق وإكرامه بالقول بلا ضرورة، فإن ذلك تهوين للدين ومداهنة فيه ، واختيار للدنيا على الدين، إلا أن فعل ليجره للإسلام وتوهم بعض أن الآية خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فزعم أنها فى ترك القتال ونسخت بآية السيف.
{ وأقيموا الصلاة } المفروضة عليكم. { وآتوا الزكاة } هى ما فرض عليهم من زكاة، وقيل هى ما يضعونه للنار التى تنزل فتأكل ما تقبل دون ما لم يتقبل وهذا القول أعم { ثم توليتم } جار على أسلوب الالتفات فى قوله لا تعبدون بالمثناة الفوقية، وأما قراءة لا يعبدون بالتحتية ففى توليتم عليها التفات بالنظر إلى قوله بنى إسرائيل الغيبة إلى الخطاب، ويجوز أن يكون الخطاب فى توليتم لمن فى عهد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ودخل فيه من قبلهم تغليبا للحاضر على الغائب ومعنى توليتم أعرضتم عما أخذ منكم من الميثاق، فصرتم تعبدون غير الله، ولا تحسنون بالوالدين ولا بذى القربى والمساكين واليتامى، ولا تقولون للناس حسنا، ولا تقيمون الصلاة ولا تؤتون الزكاة، وروى عن ابن عباس أن الخطاب لمن فى عصره صلى الله عليه وسلم أسند إليهم تولى أسلافهم لأنهم كلهم بتلك السبيل. { إلا قليلا منكم } لم يتول وهم من عمل بما فى التوراة قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، وبما لم ينسخ منها بعد البعثة وآمن به صلى الله عليه وسلم، كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، والاستثناء من التاء فالعلة فى عدد الأشخاص، ويضعف أن يكون الاستثناء من التولى، أى توليتكم كل تول إلا توليا قليلا فإنهم لم يتولوه، وذلك بأن فعلوا بعض ما أمروا به دون بعض فيكون استثناء فى الإيجاب من محذوف، وهو قليل، وأجاز بعضهم القياس عليه. ورويت رواية ضعيفة برفع قليل، فيكون قليل بدلا من التاء، وإنما جاز ذلك مع أن الكلام تام موجب، لأن التولى بمعنى النفى، لأن معناه الترك وعدم الفعل وذلك نفى، وهو كما استثنى فى التفريع من الإيجاب لتضمنه النفى فى قوله
تغير إلا النوى والوتد
لأن تغير بمعنى لم يبق فيبطل اعتراض الصفاقصى إذا اعترض على رفع قليل، وعلى تأويل التولى، بقولك لم يوفوا بالميثاق بأنه مثل قولك قام القوم إلا زيد على تأويل لم يجلسوا، ووجه البطلان إن توليتم موضوع لمفهوم تركتم وانتفيتم، بخلاف قام فإنه لم يكن مدلوله لم يجلس بل مدلول له فعل فعلا يسمى قياما، ولو كان التعبير عنه بلم يجلس جائز، ألا ترى أن قولك لم يجلس حرف وفعل فكيف يفسر فعل بحروف وفعل.
{ وأنتم معرضون } هذه الجملة حال مؤكدة لقوله { توليتم } ، ويجوز أن يكون المعنى وأنتم أيها الذين فى عهد محمد صلى الله عليه وسلم معرضون عن الحق كآبائكم، على أن الخطاب قبل هذه الجملة لمن تقدمهم وأن يكون المعنى وأنتم قوم من شأنكم الإعراض عن الوفاء بالميثاق، أو عن الطاعة، سواء جعلنا هذه الجملة خطابا للذين فى عهده صلى الله عليه وسلم أو لمن قبلهم أو للكل، فالجملة على هذه الأوجه مستأنفة أو حال مؤسسة، والإعراض عن الشئ عبارة عن تركه، وأصله الذهاب عن المواجهة إلى جهة الإعراض.
[2.84]
{ وإذ أخذنا ميثاقكم }.. إلخ الكلام فيه كالكلام فى الذى تقدم. { لا تسفكون دماءكم ولا يخرجون أنفسكم من دياركم } يحتمل تقدير مضافات أى لا يسفك بعضكم دماء بعضكم، ولا يخرج بعضكم أنفس بعضكم من ديار بعضكم، أى من دياره، ونكتة الحذف بقاء صورة الكلام دالة على أنه قاتل نفسه إذا قتل الآخر، ومخرج نفسه إذا أخرج الآخر، لأنهما كواحد للنسب أو للدين، ولأنه كما يدين يدان فيقتل إذا قتل ويخرجه إذا أخرج من طبع الناس المجازاة، فإذا قوى المغلوب أخرج ولا سيما القصاص، فإن الشرع والطبع كليهما يدعوان إليه، وإن قلت. كيف أضيفت دما لبعض والأنفس كذلك؟ قلت مسوغ ذلك أن البعض يجوز إطلاقه على فرد وفردين وثلاثة وأكثر، فتشمل الأنفس والدماء نفس المفروض على حدة، والمفروضين على حدة، والثلاثة المفروضين كذلك فصاعدا ودماؤهم وكذلك الديار ولا سيما أنه يجوز اعتبار أجزاء دم الواحد، فيقال له دمه فيعبر عن قتله بسفك دمائه، وكذا أجزاء نفسه وتشمل الديار ديار الواحد ودار كل أحد، ويجوز كون الأصل لا يسفك بعضكم دم بعضكم، ولا يخرج بعضكم نفس بعض من دار بعضكم، أى من داره كلما حذف المضاف ساغ جمع الدم والنفس والدار، لأنهن يضفن للجميع ويحتمل ألا يقدر مضاف، بل يخرج الكلام على المجاز المرسل الذى علاقته سببية أو المسببية أو هما أو اللازمية أو الملزومية وهما بأن عبر عن قتل الإنسان أخروا إخراجه من داره بقتل الإنسان نفسه وإخراجه من داره، لأن فعله ذلك بالآخر يؤدى إلى أن يجازى بما فعل أو على المجاز الاستعارى بأن يشبه الإنسان بالآخر حتى كأنه نفسه لجمع النسب، أو الدين أو كليهما بينهما، وقبل المعنى لا تفعلوا ما يكون سببا لسفك دمائكم وإخراجكم من دياركم من الشرك والزنى وقتل النفس المحرمة والفساد فى الأرض، فنهى عن المسبب وهو اللازم وأراد النهى عن السبب وهو الملزوم، وقيل المعنى لا تخسروا أنفسكم الخسران الحقيق بالإصرار على الشرك والمعاصى، فإن هذا هو القتل الأبدى الدائم، ولا تخرجوا أنفسكم بالإصرار على ذلك من ما دياركم فى الجنة، فإن هذا الإخراج الحقيقى، وأصل دم دمى بإسكان الميم، وقيل دمو كذلك حذفت لامه وأعرب على العين. { ثم أقررتم } بالميثاق ولزوم الوفاء به، أو بأنكم فيكم الميثاق وأخذ منكم { وأنتم تشهدون } حال مؤكدة وإن جعلنا الخطاب السابق لأسلافهم وهذا لهم كانت الجملة مستأنفة، أى وأنتم تشهدون على أسلافكم أنهم أقروا بالميثاق والتزامه، ولك أن تجعل إقرارهم وأنتم تشهدون كله خطاب لهم لا خطاب لأسلافهم، كانت الجملة الثانية حالا مؤكدا، وكان إسناد الإقرار إليهم مجازا، وأصله أن يسند لأسلافهم، وحقيقة الكلام أن يقال ثم ذكرتم ذلك عن أسلافكم وأنتم تشهدون، أو الجامع أن كلا من الإقرار والذكر تكلم بما هو الواقع أو عبر بالإقرار لأن مضرة أسلافهم مضرة لهم، أو لأنهم على طريقهم فإقرارهم على أسلافهم إقرار على أنفسهم.
[2.85]
{ ثم أنتم هؤلاء } أنتم مبتدأ وألاء خبرا والجملة معطوفة على أقررتم عطف اسيمة على فعلية، وإنما كان العطف بثم الموضوعة على تراخى وقوع الفعل أو تراخى عدم وقوعه، ليفيد استبعاد ما فعلوه من نقض الميثاق مع الإقرار به والشهادة عليه، عن الصواب والدين ومقتضى العقل، فقد استعملت ثم للتراخى فى غير النسبة مع أنها وضعت للتراخى فى النسبة فقط استعمالا للمقيد فى المطلق، ولك أن تجعلها بمعنى الواو أو الترتيب فى الإخبار بلا تراخ، وهكذا فى مثل ذلك مما لم تستعمل فيه للتراخى فى النسبة، وأشار بلفظ هؤلاء إلى الناقضين للميثاق، وإن قلت كيف صح عطف هذه الجملة بثم الدالة على التراخى على الوجه الأول، مع أن هؤلاء الناقضين أبدا هم أنفسهم أعينهم لا تمضى مدة متراخية ولا غير متراخية، وهم فيها غير أنفسهم فإنه لا يقال لزيد ثم أنت زيد، لأنه هو زيد قبل وبعد وفى الحال، قلت نزل تغير الصفة منزلة تغير الذات فإن تغير الصفة التى هى الوفاء الواقع تحقيقا أو إمكانا إلى الصفة التى هى النقض كتغير الذات، ولذلك صح الإخبار عن لفظ أنتم بما هو نفس مدلوله، إذ المعنى ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء الناقضون، كقولك ثم أنت ذلك الرجل الذى خان وغدر بعد ما أكرمته وائتمنته، ولذلك أيضا صح العطف على أقررتم، كأنه قيل أقررتم ثم نقضتم، ومن تنزيل تغير الصفة منزلة تغير الذات قول المشركين فى شأن الذى أرسلوه إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مشركا ورجع مؤمنا والله لقد رجع بغير الوجه الذى ذهب به. وقال أبو الحسن بن أحمد الباد أنتم خبر وهؤلاء مبتدأ، واعترضه أبو حيان بأنه لا داعى إلى جعل مبتدأ أنتم وهؤلاء خبر مع سلامته من تقديم وتأخير. قلت لعل داعيه أنه قلما يجتمع الضمير والإشارة يخبر بأحدهما عن الآخر إلا قرن الضمير بها للتنبيه، وجئ بعده باسم الإشارة مجردا منها ومقرونا، فحينئذ يتبادر كون الضمير مبتدأ لقرنه بهاء التنبيه، ومثل الآية قوله تعالى { هم أولاء } والجملة على كل حال وعيد لهم لاعتبار ما أسند إليهم من الأفعال القبيحة حصورا للفظ أنتم.. إلخ، وباعتبار ما حكى عنهم غيبا لقوله يردون. { تقتلون } حال ناصبها معنى الإشارة، وبهذه الحال تم المعنى كما قال ابن الباذش، ويجوز كون هذه الجملة بدلا من قوله { أنتم هؤلاء } أو عطف بيان عند من أجازه فى الجملة، أو مستأنفة لبيان الجملة قبلها، وقيل هؤلاء منادى بحرف محذوف، وتقتلون خبر أنتم، أى ثم أنتم يا هؤلاء تقتلون وحذفه مع الإشارة قليل منع سيبويه القياس عليه، قال ابن هشام شذ حذفه معها فى قوله
إذا هملت عينى لها قال صاحبى بمثلك هذا لوعة وغرام
Halaman tidak diketahui