Hakadha Takallama Nasr Abu Zayd

Jamal Omar d. 1450 AH
95

Hakadha Takallama Nasr Abu Zayd

هكذا تكلم نصر أبو زيد (الجزء الأول): من نص المصحف إلى خطابات القرآن

Genre-genre

انتقالات نصر أبو زيد هي فعل تراكم معرفي، حركة بندول الساعة ذهابا وإيابا بين المنهج والموضوع، بين النظرية والتطبيق، بين الباحث وأدواته البحثية، بين السؤال ومحاولات الإجابة التي تولد أسئلة أخرى. إنها البحث والفكر في حالة صيرورة مستمرة، فالبحث العلمي رحلة ومشوار وليس مجرد محطة وصول، والباحث الذي يتصور أنه قد وصل وامتلك الحقيقة فقد بدأت نهايته كباحث.

الشق الآخر من السؤال هو: لماذا لم ينتبه الدارسون إلى المراحل الثلاث في تطور فكر نصر أبو زيد؟ وهذا يقودنا إلى تساؤل آخر، وهو: هل هناك من درس نصر أبو زيد موضوعيا أصلا، غير أولئك الذين تمترسوا معه أو ضده، وغالبا دون أن يقرءوه، كما أشرت لذلك حضرتك مرارا، وكما حصل مع الشخصيات المشابهة غالبا؟

واقعنا الفكري بالجامعة به حالة من الرتابة، حالة من الركود، فنحن نحاول دائما مواجهة التغيرات المتسارعة في العالم حولنا بنوع من تثبيت المتغيرات، ومحافظة على العالم الذي نعرفه ونألفه خوفا من خطر المجهول. بل إن الثبات - قرين الجمود - نعلي من قيمته في حياتنا، فنحن ثقافة تعبد الأصول وتمجد الاستقرار؛ استقرار اللاحركة، كذلك باحثونا حينما يدرسون مفكرا، فهم يتعاملون معه على أنه ظاهرة ثابتة. فمن لا يدرس خطاب نصر أبو زيد في تطوره؛ فمن الصعب عليه أن يمسك بهذه الانتقالات. السبب الثاني في نظري هو أنهم يتعاملون فقط مع بعض نصوصه، بخلاف باحثة من نيوزيلاندا، في جامعة ألمانية مثلا؛ كانت تقوم بدراسة مقارنة في إحدى الجامعات الأوروبية بين فضل الرحمن ومحمد أركون ونصر أبو زيد، فأخذت عربتها «الفان» إلى هولندا لتقابل نصر، وتقضي أسبوعا تبيت في عربتها لتسجل معه حوارا على مدار الأسبوع، وتصاحبه في الجامعة لتدرس أفكاره لأطروحتها الجامعية، وعندي هذه التسجيلات، شيء بديع. وكذلك باحث من جامعة بأمريكا كان يعد رسالة له عن تصورات نصر أبو زيد عن القرآن، هو أيضا سافر من أمريكا لهولندا ليقضي عدة أيام يناقش فيها أبو زيد عن تصوراته عن وحدة القرآن. للأسف في الكتابات العربية معظم من ينطلق لدراسة خطاب تكون نقطة البداية عنده أو عندها هو قضية التفرقة بين نصر أبو زيد وزوجته والضجة حولها. وحسب موقف الشخص المسبق من القضية تتحدد طريقته في دراسة الخطاب. فإما مدافع عن نصر يبحث عن مبررات يدافع بها عنه، وإما مهاجم يبحث في نصوصه عما يؤكد الادعاءات التي اقتنع بها مسبقا. وما زلنا في انتظار باحثين لا يسعون لإصدار أحكام، بقدر ما أن يسعوا إلى فهم واستيعاب خطاب نصر أبو زيد حسب منطقه هو وتصوراته، ثم بعد ذلك يأخذون منها موقفا بعكس عملية اتخاذ موقف من الخطاب أولا ثم دراسته. وللأسف هذا ما حدث في التسعينيات أيضا؛ ففي مباراة قضية أبو زيد من يدافعون عنه لم يقرءوا مؤلفاته ومن يهاجمونه لم يقرءوا، ومن قرأ من الجانبين كان فقط ليثبت موقفه المسبق، وتداعت القبائل. - تشير، حضرتك، إلى أن أبو زيد قد تحول في أوائل العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين إلى النظر إلى القرآن الكريم (كخطاب)، هل يمكن أن تعطينا ولو بإيجاز مفهوم نصر للقرآن كخطاب؟ - النظر للقرآن على أنه نص، والمصحف على أنه كتاب، طرح العديد من الإشكاليات، ما زال المسلمون ودارسو المصحف يتعاملون معها منذ جمعه بين دفتي كتاب. وقد حاولت في كتابي «مقدمة عن توتر القرآن» أن أطرح جوانب من هذه الإشكالات. ونصر أبو زيد ذاته وقع في هذا في دراساته القرآنية منذ رسالته للماجستير حتى نهايات التسعينيات، في النظر للمصحف على أنه نص، والتعامل معه على أنه كتاب، يجب أن يكون له مركز دلالة وبؤرة معنى، فيصبح السؤال مثلا: هل المصحف مع تنزيه الذات الإلهية أم هو مع التجسيم؟ فالمفكر الدارس للمصحف على أنه كتاب يحاول أن يجعل معنى واحدا من هذه المعاني هو المعنى المركزي ويجعل المعاني الأخرى هي الهامش؛ فعلها المعتزلة بأن جعلوا التنزيه هو المعنى المحكم، وأن كل الآيات التي تشير إلى جسم عند الحديث عن الذات الإلهية، جعلوها هي آيات متشابهة، يتم تأويلها طبقا للتنزيه. ويصبح الصراع بين المتصارعين على ما هو المعنى المركزي، وما هو المعنى الهامشي أو التاريخي المرتبط بواقعه ولا يتجاوزنه، وتاريخ تأويلات المسلمين يدور حول إيجاد حلول لما هو معنى مركزي وما هو هامشي، حتى الآن.

فنصر أبو زيد بناء على جهود محمد أركون في دراسة الظاهرة القرآنية، وجد أن النظر للقرآن على أنه نص - المفهوم الذي دافع هو عنه - هو لب الإشكال، فالنبي عليه السلام لم يخرج من الغار حاملا نصا، بل خرج ونطق بكلام. وظل تبادل هذا الكلام منطوقا حتى مع التدوين الذي وصلتنا أخباره، لم تكن وسيلة تداول لكلام الله، الكتابة كانت وسيلة تدوين لحفاظ، لكن تداول القرآن ظل شفاهيا، بل أبالغ وأقول ظل شفاهيا حتى عصرنا الحديث - لكن هذا موضوع آخر - النبي ينطق بمجموعة من الخطابات منفصلة، في أزمان مختلفة على مدار أكثر من اثنين وعشرين عاما وخمسة أشهر، ومات النبي عليه السلام، ولم يكن هناك مصحف واحد على وجه الأرض، حتى جمع لجنة عثمان بن عفان، نحن نتحدث عما يقرب من سبعة وثلاثين عاما . الوحي يتم تبادله بدون شكل معين لمصحف حتى جمع عثمان بن عفان، هنا بدأ التعامل مع كتاب بين دفتين له ترتيب وشكل معين.

هذه الوحدات الخطابية التي نطق بها النبي، كل وحدة منها لها سياق، وقد تم إعادة ترتيب وجمع وحدات بجوار بعضها في السور، وظللنا نتعامل معها بالترتيب الذي تم جمعها في المصحف عليه، بل تعاملنا معها آية آية من أول الفاتحة حتى سورة الناس، وهذا جهد أنا أوليه اهتماما كبيرا. لكن عودة إلى جهد أبو زيد، فمنذ منتصف التسعينيات وهو يتعامل مع هذا الجانب الحواري في المصحف، لكنه كان ما زال يتعامل معها من منطلق القرآن نصا، لكن حين بدأ ينظر للمصحف على أنه مجموعة من الخطابات تفتحت أمامه عوالم أخرى.

أعطي مثلا عاما مأخوذا عن أبو زيد ذاته حتى يقترب ما أعني، فمثلا إذا قرأت عبارة مكتوبة تقول: «قال له إزيك يا راجل.» قراءة هذه العبارة نفهم منها معنى لغويا معينا، يتسع معنى العبارة أو يضيق بسياق النص التي هي جزء منه. نفس هذه العبارة منطوقة، معناها يتوقف على «تون» النطق، وعلى «مود» الخطاب. فلو قالها غاضبا لها معنى، لو قالتها فتاة متقطعة بدلال أنثوي لها معنى مختلف. ولو قيلت بشعور خائف ... إلخ هي نفس العبارة، لكن طريقة نطقها تجعل المعنى مختلفا، وحين نكتبها تفقد كل هذا الزخم من المعاني، ويتم اختصار المعنى حين نحول المنطوق إلى نص. وبالطبع في حالة القرآن، لن نستطيع أن نصل إلى مود كيف نطق نبينا الكريم الكلمات حينما نطق بها أول مرة. لكن لو عدنا إلى العبارة التي أخذناها كمثال: «إزيك يا راجل» لو سألنا سؤالا مثل: من المخاطب وهو من المخاطب؟ فلو عرفنا أن قائل العبارة طالب في جامعة يخاطب بها أستاذا في الجامعة، تأخذ العبارة معاني مختلفة تماما. ولو عرفنا أنه قالها في قاعة محاضرات، تأخذ معنى أوسع، ولو عرفنا أنه قالها في حضور لفيف من الأساتذة ... إلخ. تحليل الخطاب يهتم بالمتكلم وبالمخاطب، ويهتم بمود الخطاب. ففي المصحف حين نسأل من المخاطب، سنجد مجموعات من المخاطبين. هناك خطاب لأهل الكتاب، وخطاب للمؤمنين، وخطاب لأهل قريش ... إلخ. فنحن نحتاج لتحليل القرآن تحليلا خطابيا، ثم بعد ذلك نحلله تحليل نصوص. وقد حاول نصر أبو زيد في محاضرات مختلفة، منها محاضرته الأخيرة بمكتبة الإسكندرية ديسمبر 2008م تقديم نماذج لذلك. وتوفي وهو يبدأ في تأويل سورة الفاتحة بالإنجليزية. - تفضلت أيضا بأن نصر في السنوات الأخيرة من عمره تحول إلى (رؤية العالم في القرآن)، فهل يمكن أن توضح لنا المقصود من هذا؟ - المصحف بترتيبه الحالي هو ليس ترتيب نزول الوحي على النبي، وأيضا المصحف بترتيبه الحالي هو الترتيب الذي أثر في فكر وحياة المسلمين عبر التاريخ، فلا يمكن إهمال أي من الترتيبين. فلو ركزنا على المصحف في ترتيب نزول الوحي فقط، سيتحول المصحف إلى مجرد شبه سرد تاريخي لسيرة النبي عليه السلام والمسلمين الأوائل وصراعاتهم مع أهل قريش وأهل الكتاب. وكان سؤال أبو زيد في سنواته الأخيرة: هل المصحف بترتيبه الحالي وراءه رؤية أو رؤى للعالم؟ فكان سعي أبو زيد بحثا في جهود السابقين من المسلمين، وهل سعوا إلى ذلك؟ وهل في دراساتهم عن القرآن توجد بذور لرؤى للعالم في القرآن؟ فنحن نعرف سعي الفقهاء لمحاولة الوصول إلى مقاصد كلية للنصوص الدينية، تكون مجردة عن الأحكام الفقهية التفصيلية. وبالفعل قدم أبو زيد محاضرة الافتتاح في مؤتمر «السياقات التاريخية للقرآن» بجامعة نوتردام بأمريكا إبريل 2009م حول الأمر، وعقب عليه المفكر الإيراني عبد الكريم سروش. - من بعيد، قد لا يبدو كتاب «أنا نصر أبو زيد» أكثر من تجميع «ميكانيكي» لمقتطفات تعبر عن سيرة موضوعة، لكن التأمل الموضوعي المنصف فيها يكشف عن شيء أبعد وأعمق بكثير، هل يمكن أن تحدثنا عن المنهج الذي اتبعته في تأليف هذا الكتاب، وعن الجهد الذي بذلته فيه؟ - كما ذكرت سابقا، هو عصارة معايشة لخطاب نصر أبو زيد لربع قرن، لكن كتابته بضمير الأنا جعل الجميع تقريبا يتصور أنها تسجيلات حوارات لي مع نصر أبو زيد، وأنا مجرد حولت المنطوق لنصوص. وهذا الفهم يسعدني ؛ لأنه يثبت أن حبكة السرد نجحت في إقناع القارئ. لكن الكتاب هو قراءة جمال عمر لخطاب نصر أبو زيد، ليس فقط في نصوص نصر المنشورة، بل في محاضراته المسجلة، وفيما نشر عنه، والحوارات الصحفية التي أجريت معه، والحوارات التليفزيونية والإذاعية عربي وإنجليزي؛ كي أمسك بتفاصيل حياته وحياة التفكير عنده، بجانب الحوارات التي أجريتها مع زوجته وأصدقاء له كنوع من البحث الاستقصائي، بجانب ما هو شخصي في علاقتي معه. فأنا لم أجلس أنا ونصر أبو زيد وحدنا في حوار

4

سوى مرة واحدة كانت في نوفمبر 2007م، ونشرت تفاصيلها في أخبار الأدب، ووضعت نصها في الحلقة 65 من الكتاب؛ لكي يستطيع القارئ المدقق في القراءة أن يدرك صوت جمال عمر، وصوت نصر أبو زيد في الكتاب. بل هناك صوت ثالث للمهتم هو صوت موضوعي يصف وقائع المحاكمات؛ لأن منها ما لم يعلمه نصر ومات ولم يعلمه، مثل موقف المرحوم شوقي ضيف مثلا داخل لجنة الترقيات، والكتاب قائم بذاته يتحدث عن نفسه. - هل رصدت الأثر الذي تركه كتابك؟ وهل وصل إلى النخب المتخصصة والأكاديمية، وتفاعلت معه سلبا أو إيجابا؟ وهل تمت ترجمة الكتاب إلى اللغات الأخرى مثلا كنوع من التفاعل معه ومع قضية موضوعه؟ - لا أظن أن «كتاب نصر أبو زيد» أخذ الذي يستحقه من التغطية، لكن في النهاية أنا شهادتي بلغة أهل القانون «مجروحة»؛ لأني صاحب مصلحة، لكن تمت تغطيات صحفية عند صدوره، لكنها للأسف دارت معظمها كما دارت قضية نصر أبو زيد في التسعينيات، في إطار سجال نصر أبو زيد وصراع التنوير والإظلام، ولم يقرأ المتصارعون من أي الطرفين خطاب نصر لا المؤيدين له ولا المعادين. لكن جاءني أستاذ من جامعة لايدن كان بالقاهرة يعمل في المخطوطات، وحضر ندوة قراءة للكتاب بالقاهرة، وكتب بالهولندية عن الكتاب، وطلب نسخة من الكتاب آخر تلامذة نصر أبو زيد الهولنديين في لايدن، حينما قرأ المقالة الهولندية.

الغريب أنني في حدود بحثي لم أر إشادة تدل على قراءة الكتاب فعلا سوى ما وجدته منقولا عن الدكتور علي مبروك بأن «الكتاب يتمتع بدرجة كبيرة من المصداقية». لماذا هذا الوضع؟ طبعا ربما يكون هناك بعض الإشارات الصحفية العابرة التي لا تدل على رؤية الكتاب فضلا عن تورقه أو قراءته بتأمل!

بالفعل علي مبروك عليه رحمة الله قرأ الكتاب، بل قرأ المخطوطة، فعلي كان ممن سجلت معهم عن علاقته بنصر في وقت إعدادي للكتاب كجزء من التقصي والتحقيق. وعقدت قراءة للكتاب حضرها مبروك، بل ودعاني لكي أحاضر طلبته في الجامعة عن نصر أبو زيد، وفكره وأجيب على أسئلتهم كجزء من تدريسه لمادة الفكر العربي الحديث. ومبروك بالفعل أدرك الجانب الإنساني من حياة نصر أبو زيد في الكتاب، بل وقال «إنه سيموت قبل جمال، وإنه متأكد أن جمال سيكتب أنا علي مبروك» عليه رحمة الله. - أستاذ جمال، حضرتك كخبير ومتخصص في منهج أبو زيد وفكره، هل يمكنك الحديث عن ملامح منهج خاص نهائي ومكتمل خاص بنصر أبو زيد؟ - هناك نظرية في التأويل تشكلت عبر مراحل دراسة نصر أبو زيد لعمليات التأويل للقرآن قديما وحديثا، وكنا سنلتقي في أكتوبر 2010م بعد عودته من إندونيسيا للعمل على كتاب يجمع الأصول النظرية التي توصل إليها هو، نحو نظرية لتأويل القرآن الكريم، لكنه آثر أن يتركنا ويرحل عن دنيانا. هذه النظرية متصلة الجذور بجهود القدماء والسابقين من معتزلة ومن بلاغيين ومتصوفة وفلاسفة وجهود الفقهاء القدماء في المقاصد الكلية. ومن المحدثين جهود الشيخ محمد عبده حول القرآن، وجهود مدرسة الشيخ أمين الخولي وتلامذته محمد أحمد خلف الله وشكري عياد، وإلى حد قليل بنت الشاطئ. كل هذا مربوط بما وصلت إليه منهجيات تحليل الخطاب وتحليل النصوص والهرمنيوطيقا والسيميولوجيا الغربية في جوانبها الإنسانية. فنصر نتاج جذور وبذور كثيرة، التراثي منها والحديث والمعاصر، الشرقي منها مثل جهود تشيكو أذوتسو في اليابان، والغربي مثل جهود جادمير وبول ريكور في الغرب، أو جهود مثل جهود أبونا متى المسكين في مصر في تعامله مع الكتاب المقدس، فنصر قد قابل أبونا متى وتناقش معه في جهوده سنة تسعين، وعندي نسخة من تسجيل الحوار.

Halaman tidak diketahui