Hakadha Takallama Nasr Abu Zayd
هكذا تكلم نصر أبو زيد (الجزء الأول): من نص المصحف إلى خطابات القرآن
Genre-genre
ففي خلال قرون الحيوية الفكرية عند المسلمين، كانت كل هذه الرؤى تغذي بعضها بعضا، وحتى حين تحيزت السلطة لرأي فرقة على حساب آراء فرق أخرى، إلا أنه مع الدخول في فترات الضعف، اختفى هذا الثراء الفكري؛ لتسود رؤية واحدة، بسبب عوامل سياسية واجتماعية، تاريخية، وليس بسبب الكفاءة والقدرة الفكرية، فساد تعريف واحد لسؤال: ما هو القرآن؟ منذ زمن المتوكل يدور حول أنه: «كلام الله القديم المحفوظ بين دفتي المصحف». وحددت مصادر الشرع عند الفقهاء في القرآن والسنة والإجماع والقياس أساسا. وفي عصور تالية حاول المسلمون الوصول إلى مقاصد كلية للشريعة، صاغها الشاطبي في خمسة: حفظ النفس، المال، الدين، العقل، العرض. ودخل الفكر عند المسلمين في قرون التقليد والحواشي والاجترار، والترديد.
أتى التحدي الغربي على العالم العربي سياسيا وعسكريا، وأيضا تحديا فكريا من خلال جهود الاستشراق التي رأى فيها البعض ذراعا فكرية للاستعمار الغربي، فجاءت جهود مفكرين مسلمين لمحاولة تحديث الفكر «الإسلامي»، وتركزت الجهود للعودة لمصادر من التراث بدل الشروح والحواشي، لكن كل الجهود باستثناء محاولة محمد عبده المتواضعة في طبعة كتابه الأولى «رسالة التوحيد»، للتعرض لمسألة الخلاف بين المعتزلة وخصومهم في مسألة: هل القرآن قديم قدم الذات الإلهية، أم مخلوق؟ وانحاز محمد عبده لمفهوم المعتزلة؛ إلا أن الطبعة الثانية من الكتاب حذف منها هذا الانحياز. ودارت كل الجهود في محاولة توسيع المعنى المفهوم من القرآن؛ ليتناسب مع نتائج العلم الحديث، والتوفيق بين المذاهب الفقهية، وعملية نقد للسنة. وحتى مدرسة التفسير الأدبي للقرآن الكريم التي مثلها الشيخ أمين الخولي وتلامذته، والتي اعتمدت على جهود محمد عبده الجزئية، وانطلقت إلى أنه قبل استخراج أحكام فقهية أو قانونية أو فكرية من القرآن، لا بد من دراسته دراسة أدبية وافية، قبل كل شيء، فهو «كتاب العربية الأكبر»، والمدخل إليه هو اللغة والبلاغة. وعلينا الاستعانة بآخر ما وصلت إليه علوم البلاغة واللغة، في دراسته وعدم الوقوف عند المستوى الذي كانت عليه علوم البلاغة عند أسلافنا.
لكن كل هذه الجهود ظلت تدور في إطار الأسس اللاهوتية، والتصورات العقيدية، الفقهية الحنبلية، التي استمرت طوال القرون العشرة الأخيرة. وكل المحاولات الحديثة تقريبا دارت في محاولة فتح المعنى، داخل هذا الإطار الكلامي/العقيدي/اللاهوتي، وكان نصر أبو زيد الذي عانى ليدخل الجامعة وهو في الخامسة والعشرين من عمره لظروف عائلية، وكان يعمل فني لاسلكي، أن اختاره قسم اللغة العربية ليكون هو المعيد بالقسم الذي يتخصص في الدراسات الإسلامية، رغما عن اعتراضه لمعرفته بتفاصيل ما حدث في نفس القسم من عقدين سابقين، مع الشيخ أمين الخولي وتلامذته، والتنكيل بهم.
فتناول أبو زيد موضوع دور المفكر الاعتزالي في نشأة مفهوم المجاز في الدرس البلاغي العربي، وكانت قد ظهرت بعض كتبهم منذ سنوات قليلة، حين بدأ في دراسته. وانبهر أبو زيد بأسسهم اللاهوتية، التي تختلف عن الأصول الأشعرية والحنابلة السائدة. وكانت حالة استخدام الدين لتبرير المواقف السياسية التي كانت تمر بها مصر، من اشتراكية الإسلام، وأعدوا ما استطعتم من قوة لمواجهة العدو الصهيوني، في زمن عبد الناصر، إلى السلام:
وإن جنحوا للسلم فاجنح ، والدعوة لدعم الإسلام للمشروع الخاص، والملكية الفردية. وكيف أن تقسيم البشر إلى درجات، هو سنة قرآنية:
ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات . وفسرت الدرجات على أنها المستويات الاقتصادية، لكن أبو زيد أدرك أن مثل هذه التأويلات الأيديولوجية قام بها أسلافنا أيضا من خلال منهجه في الدراسة؛ للربط بين المفسر والنص من خلال علاقة الفكر بالواقع.
فسعى إلى دراسة جانب آخر من تراثنا الديني في تعامله مع القرآن، فكانت رسالته للدكتوراه عن فلسفة التأويل عند محيي الدين بن عربي، فاتسعت عدسة الرؤية من مفهوم جزئي هو «المجاز» إلى دراسة «فلسفة التأويل». لكنه استغرق متن الرسالة في عرض فلسفة ابن عربي، وتتبع فلسفة ابن عربي ذاته في التأويل في الباب الأخير، لكنه أدرك أيضا أن الفكر عند المتصوفة لا ينفصل عن صراعات الواقع، وأخضع هو الآخر القرآن للتأويلات الأيديولوجية. وأدرك أبو زيد تأثير القرآن في تكوين فلسفة ابن عربي، فكان التساؤل عنده بعد ذلك هو: هل هناك مفهوم موضوعي للنص القرآني بعيد عن التحيزات المذهبية والفكرية، فقام بدراسة موسوعتي الزركشي والسيوطي في علوم القرآن. وفتح الباب الذي ظل موصدا تقريبا لعشرة قرون خلال الدراسة لأسئلة مثل: ما هو الوحي؟ وما هي طرقه؟ وهل للقرآن علاقة بالتاريخ، والثقافة العربية في القرن السابع؟ فخصص بابا في الكتاب للقرآن منتج ثقافي، بوضع النص في سياق الثقافة المعاصرة لظهوره تشكلا وتشكيلا، تظهر خصائصه في علاقته مع الواقع، وأحداثه من خلال مفهوم الوحي، والمكي والمدني، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ. والباب الثاني للقرآن منتج ثقافي، لدراسة تشكيل النص القرآني للثقافة الإسلامية، من خلال آليات النص. وتعلم الكثير من جهود عبد القاهر الجرجاني، وجهود المستعرب الياباني «توشيكوا أوذوتسو»، وكان نصر أبو زيد من أوائل من أعادوا فتح الحوار حول ماهية القرآن، وما معنى الوحي وعلاقة القرآن بالتاريخ؛ الباب الذي لم يطرق خلال عشرة قرون. من هنا كان التحدي، ومن هنا كانت معارضة جهوده؛ لأن القديم من طول استمراره أصبح عقيدة، ومن يخرج عليه يعد خارجا عن العقيدة والدين.
لكن الطامة الكبرى، كانت عندما توجه نصر أبو زيد لدراسة تعامل المعاصرين وتأويلاتهم للنص القرآني من خلال دراسته في نقد الخطاب الديني، وتأويلات الخطاب الديني للقرآن وإهدارها للسياق، ودراسته عن الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، التي كانت بمثابة فصل أول في كتاب عن مفهوم النص دراسة في علوم السنة، ونقده الشديد لفكر مشروع النهضة، ونقده للاستبداد السياسي، وأن الإرهاب والعنف نتيجة لغياب الحريات، وغياب الديمقراطية، مما جعل خطاب أبو زيد مستهدفا من الجانبين؛ من جانب السلطة، ومن جانب التيار الديني بكل فصائله، فلم يترك خطاب أبو زيد فرصة لأي منهما أن يدافع عنه، في ظل حالة الاحتقان التي كانت تمر بها مصر في بداية التسعينيات، والمواجهة المسلحة بين الدولة وجماعات العنف الدينية. أتت مسألة ترقية أبو زيد إلى أستاذ مساعد؛ لتصبح مجال التيارين، عبر مبدأ «عدو عدوي صديقي»، و«من معنا ومن علينا». وكان دور السلطة مثل عسكري المرور الذي فتح كل إشارات المرور في كل الاتجاهات.
كانت تجربة محنة قضية التفريق بينه وبين زوجته، وخروجه من مصر، وعدم اعتقاده أنه ضحية، وأن الأمر لم يكن شخصيا، بل هو نفس الصراع، يأخذ جولات. فمنذ معركة في الشعر الجاهلي لطه حسين، ومعركة الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق، ورسالة محمد أحمد خلف الله عن الفن القصصي في القرآن الكريم، ومدرسة الشيخ أمين الخولي، ركز نصر أبو زيد جهوده على دراسة: ما هي المعوقات الفكرية التي تجعل دائما خطاب التقليد، وتجعل أهل الثبات يفوزون في كل هذه الصراعات؟ فركز جهده على الدراسات القرآنية، وليس الخطاب الديني بصورة عامة. وفي عام ألفين وفي محاضرته لاعتلائه كرسي الحريات بجامعة «لايدن»، باللغة الإنجليزية، عن التواصل بين الله والإنسان، تعمق فيها في تحليل عملية التواصل الرأسي بين الله والإنسان، وثناها بمحاضرة بدمشق في الاحتفال بمئوية عبد الرحمن الكواكبي، عام ألفين واثنين، بعنوان «إشكالية تأويل القرآن قديما وحديثا». بدأ يدرك أن الأزمة في قلة ثمار التجديد في ثقافتنا يعود إلى أننا نحاول التجديد من داخل نفس الإطار اللاهوتي الحنبلي القديم، ومن هنا تفشل كل محاولات فتح المعنى الديني؛ لأنها قائمة على النوايا الحسنة، وليس على نظرية ورؤية مؤسسة تأسيسا معرفيا وفلسفيا.
وقد حاول أبو زيد في ندوة بباريس عام ألفين وثلاثة أن يقدم الإشكالية من خلال محاضرته، «نحو منهج إسلامي جديد للتأويل»، وبدأ يدرك أن الإشكالية هي في النظر إلى القرآن على أنه نص، واختصاره في ذلك، وأن ماهية القرآن، أقرب إلى الخطاب منها للنص، ونحتاج في تحليله أن نستخدم تحليل الخطاب، ثم بعد ذلك نستخدم تحليل النص، مع كل وحدة سردية. وظلت هذه القضية من النص إلى الخطاب، هي مجال دراساته ومحاضراته، خلال الأعوام التالية. وقد وصل إلى نتائج مهمة، ترفع كل التوترات التي حاول المتكلمون والفقهاء والبلاغيون والفلاسفة، وحتى المستشرقون في دراساتهم للقرآن، حاول تجاوزها، وكيف أن لها إجابات. وكانت محاضراته الأربع في ديسمبر سنة ثمانية بمكتبة الإسكندرية استعراضا لجهوده، وكان ينقصها محاضرة أخرى عن جهوده في دراسة التأويلات الحديثة والمعاصرة في العالم الإسلامي للقرآن، والتي كتب عنها دراسة مهمة باللغة الإنجليزية، عن حركة الإصلاح الديني في العالم الإسلامي، من الهند وماليزيا وإندونيسيا وإيران إلى العالم العربي، وجهود المفكرين المسلمين في أوروبا وأمريكا. فنحتاج إلى ترجمة جهود نصر أبو زيد خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة والتي ترجمت إلى كل لغات المسلمين غير لغة العرب. نحتاج إلى ترجمتها إلى العربية وكذلك الموسوعة القرآنية في ستة أجزاء التي أخرجتها جامعة لايدن، وكان أبو زيد أحد المستشارين المشرفين عليها وأحد المشاركين فيها؛ لندرك كيف يمكن الخروج من ماهية القرآن كنص إلى القرآن كخطاب، ودور ذلك في حل الكثير من التوترات المتصورة داخل القرآن عند القدماء والمحدثين مسلمين ومستشرقين. (3) آفة النسيان
Halaman tidak diketahui