Hakadha Takallama Nasr Abu Zayd

Jamal Omar d. 1450 AH
85

Hakadha Takallama Nasr Abu Zayd

هكذا تكلم نصر أبو زيد (الجزء الأول): من نص المصحف إلى خطابات القرآن

Genre-genre

جلست ظهر الأحد الرابع من يوليو 2010م للبدء في كتابة كتاب «أنا نصر أبو زيد»، وفي اليوم التالي كتب لي الصديق محمد شعير باكيا: إن نصر أبو زيد قد رحل عن دنيانا. عشت أسبوعا من حزن لم أمر به من قبل، حتى عند رحيل والدي. أفكر في هذا الألم العميق الذي شعرت به، وأحاول أن أعرف سببا أو أسبابا له، لماذا ألمي لفراق نصر أبو زيد؟ رغم أننا لم نلتق سوى مرات معدودة، ولم أجلس أنا وهو وحدنا سوى مرة واحدة. لم أكن طالبا من طلابه في الجامعة، لم أنتظم في عملية تعليمية مباشرة معه، فما وراء هذه الصلة العميقة به التي أشعر بها؟

فأتذكر شعوري حين قرأت كتابه «مفهوم النص» نصر حي، حي في تساؤله، حي في نقاشه وتفكيره، حياة تفيض في تمهيد الكتاب. نفس الحيوية النقدية التي لمستها في حواره بجريدة الأهرام، حيوية نقده الذاتي المستمر، وقلق السؤال الدائم. وحين قرأت كتابيه «نقد الخطاب الديني» و«الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية»، حينما نشرا بداية عام اثنين وتسعين، ودراساته في مجلة القاهرة ومجلة إبداع. حينها، أدركت أنه وضع يده في فم الخطر، لمست هذه الجسارة المزروعة في أرض التراث، وليس فقط في التراث الغربي. لكن أتصور أن الخيط العميق الذي وصلني بخطاب نصر أبو زيد هو إيمانه بالناس، وفي القلب منهم الشباب، الخيط الذي لم ألمسه فيمن قرأت لهم من قبله من مفكرين ومن أسماء مصرية وعربية كبيرة. كان حضور الناس في خطاباتهم وما زال حضورا كديكور في مشهد، مجاميع في الخلفية، لكن في خطاب نصر أبو زيد الناس، وفي القلب منهم الشباب، هم الهدف، وهم الغاية، بل هم الوسيلة، لا يعترف خطابه بثنائية خاصة وعامة، ولا بسلطة، ولا أن يكونا هما الطريق وهما الغاية من الحياة الفكرية في المجتمع؛ لأن بأيديهم سلطة المعرفة، وبأيديهم سلطة الفرض بالقوة، بل خطاب نصر يعول على ديموقراطية المعرفة وعلى الشعوب وعلى البشر في تغيير واقعها. شعرت بأن هذا الخيط هو الخيط الأعمق الذي يشدني لخطابه بجوار حيوية الخطاب وطاقته النقدية العميقة الصادقة.

2

لمسني من داخلي إيمان نصر أبو زيد بالناس، وبالشباب تحديدا، فكان مؤلما ما حدث داخل لجنة الترقيات ضد ترقيته للأستاذية ، وما حدث من صراع المتصارعين بقضيته في أروقة المحاكم، لكتم وقطع لسانه داخل الجامعة، باسم القانون وبسيف الحسبة. لكن الألم الأكبر كان حين قرأت في الصحف خبر سحب مكتبة الجامعة لكتبه من رفوفها. الجامعة التي كانت حلم جيل في بدايات القرن العشرين أن تكون قاطرة للحداثة تجر مشروع التحديث من سقوطه، تصبح هي بنهاية القرن، قاطرة تجر المجتمع إلى الخلف، وتكبح حركته نحو الأمام ، سعيا نحو الاستقرار. فشعرت بالثقة التي أولانا بها خطاب نصر أبو زيد، وبمسئولية ثقته فينا. كشاب، شعرت أني أقول لهذه المؤسسة: إن كان صوت أبو زيد قد تم إسكاته داخل قاعاتها، وكتبه قد تم سحبها من رفوف مكتباتها، فسيأتي من هم خارج هذه القاعات وخارج تلك الأسوار، من سيجمع هذا التراث ويحيي هذا الصوت، وشعرت أن هذه هي مهمتي، أن أقوم بما قصرت فيه مؤسسة الجامعة الحديثة في ثقافتنا بقدر طاقتي.

فجمعت نسخا من كل ما كتب ونشر نصر أبو زيد من كتب وأبحاث ومقالات، وكل ما نشر من حوارات صحفية معه، ووصلت إليها. جمعت كل الحوارات التليفزيونية التي عملت معه واستطعت الحصول على نسخ منها. وفي لقائنا هذا في المطعم بنيويورك بجوار وول ستريت لم أثقل عليه، لكن في اليوم التالي كانت عنده محاضرة بجامعة كولومبيا بشمال جزيرة منهاتن، حيث كان يدرس إدوارد سعيد عليه رحمة الله، واتفقنا أن نلتقي بعد محاضرته، فأخبرته أني سأعمل مدونة على النت تكون رواقا لخطابه، واقترحت عليه أن يأخذ تسجيل صوت ديجيتال، ويسجل به كل حواراته الصحفية، ومحاضراته بالعربي والإنجليزي؛ لكي نكون أرشيفا صوتيا له؛ لأني ألاحظ أنه في العقد والنصف الأخير يحاضر أكثر من كتابة نصوص. فوجدته وكأن فني اللاسلكي داخله، والذي عمل لمدة اثني عشر عاما بوزارة الداخلية، حي فوجدته يرسل لي بالبريد نسخا من تسجيلات أجراها معه «نفيد كرماني»، حين كان يكتب كتابا بالألمانية عن حياته في نهايات القرن الماضي. وطلبت منه نسخا من تسجيلات مناقشاته لرسالتيه للماجستير وللدكتوراه وبالفعل أرسلها لي. وأصبح بالفعل يسجل كل حوار صحفي يتم معه، أو محاضرة يلقيها ويرسله لي على النت؛ ليتجمع في السنتين الأخيرتين من عمره، ما يزيد على مائة ساعة تسجيلات بصوته عربي وإنجليزي، لتكون أرشيفا لآخر ما كان يفكر فيه نصر أبو زيد، ولتصبح مدونة «رواق نصر أبو زيد» هي المصدر الأساسي لكل من قاموا بتغطيات صحفية لرحيل نصر أبو زيد عن دنيانا، خمسة يوليو عام 2010م، خمسة أيام قبل عيد ميلاده السابع والستين.

3

فكيف أكتب عن نصر أبو زيد؟ ظل السؤال يحيرني، فقد قرأت كل كلمة كتبها ونشرها، وقد سمعت كل التسجيلات التي تحصلت عليها بصوته (عربي وإنجليزي)، وقرأت كل حواراته الصحفية المنشورة بالعربية والإنجليزية التي تحصلت عليها، وشاهدت كل الفيديوهات سواء لمحاضرات له أو لقاءات تليفزيونية، قرأت كل مرافعات المحامين في قضية التفرقة بينه وبين زوجته، وحيثيات الأحكام في درجات التقاضي الثلاث، وكل التقارير التي قدمت في عملية ترقيته إلى أستاذ بالجامعة، وكل ما دار حولها حينها في الصحف والمجلات المصرية. وقد سمعت ما سجله معه نافيد كرماني لكتابه عنه بالألمانية، وقرأت ما كتبت إيستر نيلسون عنه في كتابها معه وعنه بالإنجليزية، والمقال الطويل بمجلة النيويوركر الذي كتبته ماري آن ويفر. فهل أقوم بعمل دراسة أكاديمية، تكشف عروق الدم الحية داخل خطاب نصر أبو زيد الفكري والأكاديمي؛ لكي يعرفه وربما يفهمه من لم يفهموه من أهل الفكر والثقافة، سواء من دافعوا عنه أو من هاجموه؟ أم أكتب عن حياته وكفاحه مع أسرته بعد وفاة والده، وهو في سن الرابعة عشرة مع أمه؛ ليصل بأسرته إلى بر أمان، ونضاله في الجامعة وفي حياته الخاصة بمراحلها المختلفة، ليرى القارئ العام نصر أبو زيد الإنسان؟

حالة الاحتقان المكتومة التي كان يعيشها المجتمع المصري بين أهل الثبات والتقليد وأهل الدعوة للتجديد والتغيير، والصراع بين هوية ثابتة جامدة أصلية وبين هوية حية متعددة المشارب وتحتوي الاختلافات، هذا الصراع الذي لم يكن له قنوات ولا ساحات لكي تتم مناقشته والتعامل معه. ما إن ظهرت قضية ترقية نصر أبو زيد على السطح ، حتى تحولت إلى ساحة، بل إلى كرة يلاعب بها كل منهما خصومه، لتدخل العملية في ظل المواجهة الأمنية مع خطر الإرهاب والإرهابيين حينها، إلى ساحة واسعة لتخليص الحسابات، باستخدام كرة قضية نصر أبو زيد، مما جعل من يدافعون عن نصر وعن خطابه، في غالبهم لم يقرءوا خطابه، ومن هاجموه وحاربوه لم يقرءوا، ليتحول الأمر إلى ثقافة تحارب أعداء وتحارب معارك متوهمة، ثقافة معاركها لا تبني خطوة للأمام، ولا تضع درجة سلم لعلو، بل مجرد اجترار المعارك وأحيانا بنفس مكوناتها وبنفس توجهاتها، مهما اختلفت العصور ومهما اختلفت وسائل الصراع من عصر إلى آخر.

فثقافتنا تحتاج إلى تقديم خطاب نصر أبو زيد وتقديم مكوناته وعناصره للطرفين المتصارعين؛ حتى يبني من سانده مساندته على معرفة؛ وليبني من عارضه ونقضه معارضته ونقده على معرفة، فاخترت أن أقدم خطاب نصر أبو زيد للقارئ العام، اخترت أن أعطي من عمري ما يمد في عمر خطاب نصر الحي. اخترت أن تختفي الأنا عندي، خلف «أنا نصر أبو زيد»، عن طيب خاطر، لكن ليس لتحويل نصر إلى شيخ له مقام وقبة عالية نتبرك بها، بل لتقديم خطاب أبو زيد، لكي نستوعبه كثقافة ونهضمه، ثم نتجاوزه بأن ننظر أبعد مما نظر أبو زيد، ونسير أبعد مما وصل هو، لكن نفعل ذلك بناء عن معرفة بخطابه، وليس عبر عصبية قبيلة فكرية دفاعا عنه أو هجوما عليه بمنطق: «أنا وأخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب»، ولا بمنطق: «عدو عدوي صديقي»، بل تقديم شبه خريطة لخطاب نصر لكل من يريد أن يدخل عالمه معرفيا، تقديم يكون مساعدا لمن سيدخل عالم مؤلفاته ونصوصه، ليعرف كيف يتحرك بين جوانب خطاب نصر أبو زيد، لكنه ليس عرضا يغنيك عن قراءة مؤلفاته، بل يأخذك إليها، ويسير بك في طرقاتها. ثم تقرر أنت كقارئ وتقرري كقارئة: أين وكيف تتعاملون مع جوانب الخطاب؟

الأمر الثاني: إن حياة نصر أبو زيد الشخصية، وما بها من كفاح، ومن صراع مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي والفكري، هي قصة موحية ، بجانب التصور العميق الذي جمعني بخطاب نصر أبو زيد منذ أطروحته للماجستير، عبر سعيه للربط بين الفكر والواقع؛ الربط بين جدل المفكر وبين واقعه بمكوناته، فلا الفكر ولا المفكر يتحركان في فراغ ولا يصدران عن فراغ. والعلاقة هنا ليست بين المفكر وبين واقعه الاجتماعي العام فقط، بل مع واقعه الشخصي المباشر أيضا. فثقافتنا تميز بين النظر والعمل وأحيانا تفضل العمل على النظر كما في فكر جماعات التمرد والعنف الساعية لتديين الحياة العامة، أو تقديم النظر على العمل مثل خطابات تأييد السلطة، وتأييد الواقع، بصورها المختلفة الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. فحياة نصر لم تنفصل عن حياة التفكير عنده، فما يقوله وينادي به يؤمن به ويمارسه في حياته الشخصية.

Halaman tidak diketahui