Hakadha Khuliqat
هكذا خلقت: قصة طويلة
Genre-genre
كانت عمتي تكثر التردد علينا في أثناء مقامنا بالعزبة، وكانت سيدة من أعيان الريف المحترمات في وسطها، المحافظات على كرامة الأسرة ومكانتها، المتصدقات على الفقراء والمساكين من أهل قريتها، وكانت تكبر والدي عدة سنوات، وكانت ورعة تقية، قوية الإيمان بالله ورسوله، شديدة المحافظة على فروض دينها، تصلي الخمس فرضا وسنة، وتصوم ثلاثة الأشهر: رجب، وشعبان، ورمضان. وكان والدي يحبها ويحترمها، وكانت تغدق علي من عطفها وحبها ما كنت أغتبط به، وكان حبها الشديد إياي يرجع إلى أنني كنت - برغم أنني تلميذة بالمدارس - شديدة المحافظة على فروض ديني، وكنت أتلو عليها من سور القرآن ما يثلج صدرها، سواء أفهمته أم لم تفهمه.
وكانت عمتي تقضي معنا أحيانا أسابيع متعاقبة، وكان لها غرام بأن تقص علينا صورا من ماضي الحياة في الريف، هذا الماضي الذي تطور في نظرها تطورا لا تطمئن إليه نفسها، وكانت تقص علي من تلك الصور ما يثير عجبي؛ كانت تذكر أن أسرتنا التي استأثرت بعمدية البلد ومشيختها، ولا تزال تستأثر بهما، كانت تعد بالعشرات وتقيم في منازل عدة، وأن الفلاحين الذين كانوا يعملون في أراضينا كانوا يجتمعون كل مساء بعد صلاة المغرب في صحن الدار الكبيرة يتناولون طعام العشاء الذي يطهى لعشراتهم في هذه الدار، ثم لا يصد عن الطعام فقير وإن لم يكن يشتغل معهم في المزارع، وأنهم جميعا كانوا ينظرون إلى جدي لأبي على أنه والدهم جميعا، فلا يتزوج أحدهم إلا بعد مشورته، ولا يختلف اثنان إلا احتكما إليه وقبلا حكمه، ولا تطلق امرأة من زوجها إلا بعد أن يقتنع بأن الصلح بين الزوجين غير مستطاع.
وكانت تذكر أن هذه الأبوة لم تكن مقصورة على أبناء الأسرة والعمال في مزارعنا، بل كان أهل القرية جميعا ينزلون على حكم جدي اقتناعا منهم بعدالته، وبأنه رجل صالح يخاف الله ولا يرضى بما يغضبه، وأنه إلى ذلك رجل خير يعين البائس والمحتاج، ويأنف أن يتدخل في شئون البلد غريب أو أن يستبد بأهله حاكم ظالم.
وإن نسيت الكثير مما قصت علي إذ ذاك فلن أنسى تصويرها للقرية المصرية في النصف الثاني من القرن الماضي، فهذه الصورة لا تزال عالقة بذاكرتي، وهي تجعلني أرى أهل تلك القرية يعيشون عيش القبائل في البادية برغم أنهم أهل زراعة، ولم يكن هذا النوع من العيش عجيبا في ذلك العهد؛ فقد كانت كل قرية تعيش في عزلة عن غيرها من سائر القرى؛ لأن المواصلات السريعة لم تكن قد ابتكرت، وكان أهلها لا يكادون يسمعون شيئا عن حياة المدن، إلا ما اتصل منها بعقائدهم وإيمانهم الراسخ بالمشايخ والأسياد، وتطلعهم لزيارة هؤلاء الأسياد للتبرك بهم، ولم يكن ذلك مستطاعا لغير ذوي اليسار ومن يلوذون بهم، أما سائر أهل القرية فكانوا يمضون حياتهم كادحين في غير ملل، مؤمنين بأن الله قسم الحظوظ، وأنا لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، هو مولانا عليه توكلنا، وعليه فليتوكل المؤمنون.
كنت أطيل الاستماع لعمتي، وأطرب لحديثها، وكنت أشد اغتباطا بما تقع عليه عيني من مناظر هذا الريف الممتعة حين أتردد عليه غير مرة خلال السنة، ولم يكن جمال الريف هو وحده الذي يأخذ بناظري، بل كان لي من الطمأنينة إلى أهله حظ عظيم، وكيف لا أطمئن إليهم وأنا أرى من مظاهر ورعهم وتقواهم ما يثير إعجابي؟! لقد كنت أخرج مع والدي أحيانا بعد الغروب فأرى أحدهم يقوم لصلاة العشاء في مصلى ساذج مفروش بالحلفاء على حافة الترعة بعيدا عن الأعين، فيهتز لذلك قلبي، وتتأثر بهذا المنظر كل مشاعري، فهذا الرجل المنفرد وسط لا نهايات المزارع في هذه الساعة من المساء يدعو ربه ويستغفره، كان مثال الورع في نظري، ولم يدر بخلدي في تلك الأيام من طفولتي وبدء صباي ما عساه يدور برأسه في أثناء صلاته أو بعدها من أفكار قد لا يرضى الله عنها، بل كنت أومن بأنه في وحدته قريب من ربه، وأن حرصه على فروض دينه خير شاهد على نقاء قلبه، وصفاء سريرته.
وعدنا إلى القاهرة في أخريات الصيف من تلك السنة، وأنا موشكة أن أدخل ميدانا جديدا من ميادين الحياة، وأن ألبس ملابس النساء: الحبرة، والبرقع، وإني لأذكر اليوم في ابتسامة لا تخلو من مرارة ما كان يدور برأسي الطفل إذ ذاك من غبطة لهذا الانتقال من حرية الطفولة إلى قيود المرأة، هذه الغبطة التي لا تفسير لها إلا التطلع إلى المستقبل الذي كتب على جنسنا، والذي لا نعرف غيره، ولا مفر لنا منه، والذي تنتظره كل فتاة، أو على الأقل كانت تنتظره فتاة ذلك العهد، وترى فيه أحلام السعادة، ويرى أهلها فيه أحلام الطمأنينة إلى الحياة، أقصد الزواج، أواه لو علمت كل فتاة، وآه لو علم أهلها ما يخبئ الغيب!
لا أريد أن أسبق الحوادث، أو أعبر عما شعرت به في لحظة غير اللحظة التي أكتب عنها، لقد كنت يوم دخلنا القاهرة في ذلك العام سعيدة تفيض عني المسرة، لقد كنت أحبو من الطفولة إلى الصبا في صحة ونضارة، وكانت تحيط بي كل أسباب النعمة على ما كان يتصورها ذلك الجيل، كان أبواي يسبقاني إلى رغباتي، وكنت أجد من حنانهما وعطفهما وبرهما ما يسبغ على الحياة خير ألوانها، وما يجعلني أشعر كأنني في جنة الخلد، وكان تقدير أساتذتي في المدرسة، وتقدمي فيها يزيدني نعيما وغبطة.
وكان الأمل الباسم الذي يفتح أجنحته الأثيرية للشباب الموشك أن يتفتح كما تتفتح الأزهار ينشر أمام خيالي الساذج ألوانا من الهناءة لم أعرف لها في الحقيقة مثالا، وكان مرجع رضاي يومئذ عن نفسي إلى ما عرفت به بين زميلاتي في المدرسة من حسن الخلق لشدة محافظتي على صلواتي، حتى كان بعض معلماتي يسمينني «رضوان الجنة» نسبة إلى حارس جنة الخلد؛ وذلك لشدة عنايتي بمصلى المدرسة.
وبعد أسابيع من استقرارنا في العاصمة فكرت والدتي في أن تفصل لي حبرة ألبسها وألبس البرقع معها، ولهذه المناسبة جعلت أذهب معها إلى المحال التجارية لتختار القماش المناسب، وإلى الخياطة لأفصل الحبرة، ويومئذ أحسست شعورا جديدا يخالط نفسي، شعور الأنوثة التي تسري في عروقي وأعصابي كما يسري ماء الحياة في الشجر فيزيده رواء، ويزيد خضرة أغصانه بهجة، وأكمام أزهاره تفتحا.
ولقد كنت إذ ذاك أعنى بملاحظة السيدات المبرقعات وما يسبغه عليهن الحجاب من جمال يزيد عيونهن النجل روعة وبراعة، وكنت نحيفة القوام معتدلة، وكانت والدتي لا تفتأ تلفتني إلى هاتيك السيدات الممتلئات يتحدث جسمهن البض عن معاني النعمة، وتكاد تؤنبني لنحافتي، بل لقد كانت تذكر لي أن من هاتيك السيدات من تشعر بنحافة جانب من جسمها، فتطالب «الخياطة» بأن تضع تحت الحبرة أسلاكا، أو تحشوها فتستر هذه النحافة، مع ذلك بدأت أشعر أن في عيني من الجاذبية ما يغنيني عن هذا الجمال المصطنع، وإن لم أجرؤ على أن أذكر شيئا من ذلك لوالدتي.
Halaman tidak diketahui