Hakadha Khuliqat
هكذا خلقت: قصة طويلة
Genre-genre
عاد إلى قلبي خفقانه، وعادت إلى جسمي رجفته، ولم أشعر ويده لا تزال في يدي أأثلجها الموت أم أنها لا يزال فيها دفء الحياة! وإنني لفي هذه الحال من الحيرة والاضطراب إذ دخل الطبيب الذي عاده وأنا لا أزال بالسويس، فلما رآني استأذنني وأخذ يد زوجي من يدي، ثم وضع أذنه على قلب الرجل، ثم قال: البقية في حياتك يا سيدتي. وانصرف.
رباه ماذا أصنع؟! هذا قضاؤك لا مرد له، أأصيح كما تصيح النساء؟ أأخلع ثياب إحرامي لألبس السواد؟ خنقتني العبرة وهوى قلبي إلى قرار سحيق، وحبس صوتي فلم أجد إلى الصياح سبيلا، ولقي الطبيب ابنتي صاعدة إلى الغرفة التي أنا بها فأسر إليها النبأ الفاجع فدخلت علي والدمع يملأ عينيها، وقبلتني وفي نبرات صوتها حزن لم تعرفه يوم مات أبوها، وأقبل ولدي ومعه زوجه وزوج ابنتي، واجتمعنا كلنا حول هذا الميت المسجى في فراشه، وأنا لا تنفرج شفتاي عن كلمة، وانهملت عيناي بالدمع الهتون، وجاء جيراننا يشاركوننا مصابنا فتلقيناهم في حجرة أخرى.
وخرج ولدي وزوج ابنتي يعدان لدفن الميت، وذهبت ابنتي وزوج ولدي فلبستا السواد وعادتا، أما أنا فبقيت في لباس إحرامي؛ لأن وجيعة قلبي لم تكن بحاجة إلى لباس يعبر عنها، بل كانت تعبر عن نفسها بأبلغ مما يعبر عنها أي مظهر.
وأي وجيعة لقلب امرأة في كهولتها أقسى من أن ترى حبها الذي اكتمل وملأ دمها وأعصابها كما ملأ قلبها يتحطم على صخرة الموت، فلا يبقى له في متاع الحياة أمل أو رجاء.
ودفن زوجي - عليه رحمة الله - قبيل المغيب من يوم وفاته ، فلما ذهبت إلى مرقدي بعد أن صليت العشاء الآخرة ذكرت، ويا لهول ما ذكرت! ذكرت يوم رجاني رسول زوجي الأول أن أذهب إليه وهو في ساعات احتضاره ليسمع مني بأذنه أنني سامحته فأبيت! ألا كم كنت قاسية يومئذ! أويغفر لي ربي هذه القسوة؟ وغفوت فإذا الطيف الملتف في أكفانه؛ طيف زوجي الأول، يتبدى لي قائلا: لا عليك مما صنعت يومئذ، لقد سامحتك كما سامحتني، فليغفر الله لك ولي، فنامي هادئة مطمئنة.
واستيقظت الصباح بعد غفوة غفوتها بعد صلاة الفجر، فلما تقدم النهار انتقلت إلى بهو الاستقبال أتلقى العزاء ممن جئن مواسيات، فإذا بينهن صديقتي، فلما مال ميزان النهار وانصرف الناس بقيت هي حتى خلت إلي، عند ذلك قالت: «جئتك يا صديقتي معزية في زوجك الذي اختاره الله إليه أمس، وفي زوجك الأول، ولأقسم لك أنني ما كان بيني وبين أيهما إلا المودة البريئة الطاهرة أملاها علي اعترافي بجميلهما في استخلاص ميراثي وميراث أبنائي، وأملاها عليهما شهامتهما ومروءتهما، أما وأنت اليوم ولية الله الصالحة التي جاورت رسوله الكريم فقد جئت إليك مستغفرة عما فرط مني في حقك، راجية أن تسامحيني ليغفر الله لي.»
وذكرت لحديثها ما رأيت في نومي وأنا بمكة حين سعينا معا، وطفنا معا، وأقسمنا أن نعود صديقتين كما كنا، فقصصت عليها رؤياي تلك، وتفسير الأستاذ الذي يحاضر الناس في الحج مغزاها، وكيف أني طهرت نفسي من كل موجدة عليها، فعدنا صديقتين كما كنا، ثم قلت لها: «وأنا يا صديقتي لست ولية الله الصالحة كما تذكرين، وكما ذكر زوجي أمس وهو في احتضاره، إنما أنا المذنبة التائبة التي ترجو عفو ربها ومغفرته ذنوبها.»
وقامت صديقتي فقبلتني قبلة شعرت بها صاعدة من أعماق قلبها، وقالت: «شكرا لك، والحمد لله أن عدنا صديقتين كما كنا، وإني لشاكرة من كل قلبي أن أكون من جديد صديقة لولية الله الصالحة»، وقلت من جديد: «بل للمذنبة التائبة، ولعلنا نلتقي يا صديقتي عما قريب في بيت الله فنطوف معا ونسعى معا لتصبح رؤياي حقا، ولتزوري معي مدينة الرسول الكريم، وتتبركي بمسجده والصلاة في روضته.»
وقبلتني صديقتي من أعماق قلبها قبلة أخرى، وقالت: «فليسمع الله منك، وليهيئ لي بفضله حج بيته وزيارة نبيه ورسوله»، وودعتني وودعتها وقد امتلأ قلبي حبا لها، وعطفا عليها، وبرا بها، فلما عدت إلى مجلسي بعد انصرافها رفعت كفي أشكر الله على تطهير قلبي وروحي ووجداني.
وانقضت أيام العزاء، فلما كنا عشية الجمعة الذي تلا الوفاة أوصيت بشراء قدر كبير من الورود وأغصان الشجر ومما يوزع على الفقراء في المقابر من الطعام. وفي صباح الجمعة صحبني ولدي وابنتي وزوجاهما إلى قبر المتوفى، وهناك قمنا بمراسم تحيته، والدعاء أن يرحمه الله ويغفر له، ووضعت نصف ما معنا من الورود وأغصان الشجر على قبره، ووزعت على الفقراء الذين أحاطوا بنا ساعة خرجنا من عنده نصف ما معنا من طعام، ثم قلت لولدي: هيا بنا إلى قبر أبيكما، فأقبل ابني وابنتي يقبلانني في لهفة وقد ملأ الدمع أعينهما، وبلغنا مقام القبر ودخلناه وحيينا صاحبه، ودعونا الله أن يغفر له ويرحمه، ووضعت الورود وأغصان الشجر على قبره، ووزعت ما بقي معي من طعام على الفقراء. وقبيل خروجنا لم أملك عبرتي، فقد ذكرت الطيف الملتف في أكفانه يوم هتف بي أن الله غفر له ولي، وقلت مناجية ربي: «رب ما أعدلك، وما أرحمك، وما أعظم فضلك! رب لقد بلوتني حتى طهر قلبي، رب فاعف عني، وسعت رحمتك كل شيء.»
Halaman tidak diketahui