Hakadha Khuliqat
هكذا خلقت: قصة طويلة
Genre-genre
ودخلنا المدينة وأزلت عني غبار السفر، وقصدت لتوي إلى مسجد الرسول، فصليت في الروضة النبوية الشريفة صلاة القدوم، ثم إنني زرت الحجرة النبوية الشريفة ووقفت قبالة قبره
صلى الله عليه وسلم
أسأله الشفاعة يوم الدين، وما لبثت حين بدأت أدعو ربي ليقبل شفاعة رسوله في أن انهملت عبرتي وخفق قلبي وانعقد لساني كأني في حضرة ملك عظيم، بل كأني في حضرة أعظم الملوك وأجلهم قدرا وأوسعهم سلطانا، وإن يكن سلطانه سلطان بر ورحمة، لا سلطان جبروت ونقمة، ولم أستطع وتلك حالي أن أغادر مكاني، فتشبثت بأعواد الحجرة حتى دفعني الزائرون والزائرات عنها ليلثموها تبركا بها، هنالك جلست قبالتها وأطلت التحديق فيها، وقلبي مأخوذ عن كل شيء إلا عنها، ونظري ثابت نحوها لا يتحول يمنة ولا يسرة، فلما انحلت عقدة لساني أخذت أدعو من أعماق قلبي رسول البر والرحمة والتوبة والمغفرة أن يديم الله ما أنعم به علي من حال الرضا، وأن يفتح قلبي لمحبة الناس جميعا، ولمحبة أمثالي الذين أسرفوا في حياتهم على أنفسهم، وأن يسعنا جميعا في رحابه، وأن يتقبل توبة التائبين وأن يدخلهم فسيح رحمته.
واتخذت لي مكانا في الروضة الشريفة أصلي فيه كل يوم فرائضي الخمس، وأدعو الله مخلصة أن يقبل توبتي، وأتلو فيه من سيرة الرسول ما أتخذ منه الأسوة الحسنة، مع إقراري بعجزي عن السمو إلى ذياك المقام وقد أدبه ربه فأحسن تأديبه.
وشعرت بقلبي يزداد كل يوم طمأنينة، وبنفسي تزداد كل يوم هدى، فدفعني ذلك إلى التفكير في المقام بالمدينة أجاور الرسول الكريم ما بقي من أيامي، لكني تركت بالقاهرة زوجا أحسن إلي وولدين يشتاقهما قلبي، وتحن إلى نظرة منهما نفسي، ولئن استطعت أن أدعو الولدين لأراهما بالمدينة ولو مرة في كل عام، فليس من حقي أن أقيم بها إلا أن يأذن لي زوجي؛ لذلك كتبت إليه كتابا رقيقا أشرح له فيه ما مر من أحوالي ، وأشكر الله ما أنعم به علي، وأستأذنه في المقام مجاورة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى يختارني ربي، وأقمت أنتظر الجواب على خطابي، ولدهشتي وفرحتي جاءني بعد قليل كتاب زوجي ينبئني بأنه قادم إلي ومعه ابنتي، وأن ابني كان يود أن يحضر لولا أن أمسكته مصالحنا في مصر ليرعاها.
ولم يطل انتظاري مقدمهم، فبعد أيام من تناولي كتاب زوجي تسلمت برقية بأنهم أبحروا من السويس إلى ينبع في طريقهم إلى المدينة، أتراني أنتظرهم حتى يحضروا إلي أم أخف للقائهم بينبع؟ كان الجواب على هذا السؤال مدار نزاع حامي الوطيس بين روحي وقلبي: قلبي يحركه الشوق إليهم فيدفعني دفعا عنيفا لأذهب إلى ينبع، وروحي تحدثني بوحي من عقلي أنهم سيبلغون المدينة مساء اليوم الذي تستقبلهم ينبع في صباحه، وليس يشق علي أن أنتظرهم هذه الساعات فلا يخلو مكاني في أثنائها في الروضة النبوية، ولا أشغل خلالها بشيء عما أخذت به نفسي من عبادة ربي، وغلبت روحي آخر الأمر فأذعنت مؤمنة بأن غلبها كان بقضاء من الله وقدره، وبقيت بالمدينة أنتظر القادمين العزيزين من غير أن أنقطع عن أداء ما لله علي من حق.
واستقبلتهما وأنا في ثيابي الناصعة البياض، وحياني زوجي في شوق وإكرام، وتمنى لي حجا مبرورا، وقابلت تحيته بمثلها في تواضع واحترام، أما ابنتي فاندفعت إلي تقبلني وتعانقني وتضمني إلى صدرها، فأشعر في هذه الضمة البنوية الصادرة من أعماق قلبها وكأنها تريد أن تعود بضعة مني كيوم كنت أحملها في أحشائي، فيزداد قلبي وقلبها امتزاجا، وأحس بأننا روح واحد في جسدين، فلما فرغنا من تحياتنا وقبلاتنا وعناقنا، وذكرت لهم أني دعوت الله لهم ولأهلنا جميعا، سألت ابنتي: وكيف أخوك؟ قالت: بخير يا أماه، وهو يسأل متى تعودين إلى القاهرة؟ ولمحت زوجي فإذا هذا السؤال مرتسم على وجهه، وإذا هو ينتظر أن يسمع جوابي عليه، قلت: ذلك ما سنتحدث فيه بعد أن تقيما معي أياما. وبعد برهة صمت قال زوجي: أولا يجب علينا أن نذهب إلى الحرم نؤدي لصاحبه - عليه الصلاة والسلام - تحية القدوم. قلت: ذلك لكما، وسأرافقكما، لكن الواجب عليكما أن تقرأ سيرته لتقدرا شرف مثولكما في حضرته حق قدره، وهذه السيرة عندي يستطيع أيكما أن يقرأها إذا قام الليل إلا قليلا، فإذا هو زار الحرم بعد ذلك ووقف أمام الحجرة الشريفة استنار قلبه بنور صاحبها، وعرف كيف يجتمع الحق والخير والإيثار وإنكار الذات وسائر المعاني الرفيعة في نفس واحدة، هي ملاك المعاني السامية كلها، وهي القدوة خير قدوة لمن شاء أن يتبع خطاها، ويسير في أثرها.
وقرأ زوجي وقرأت ابنتي السيرة، وأخذا يصحباني كل يوم إلى مسجد صاحبها، ويجلسان معي في الروضة يصليان ويتعبدان، على أنني شعرت بعد أيام أنهما يحسباني أبالغ في تقواي، فلم أعر حسبانهما هذا بالا؛ لأنني أدركت مما رأيت منهما أن أمرا خاصا يشغلهما، وخلا إلي زوجي يوما بين صلاتي العصر والمغرب إذ كانت ابنتي في الحرم فسألني: والآن هل أستطيع أن أعلم متى اعتزمت العود إلى القاهرة؟ فقلت: أوتذكر لي أنت ما حدث بين ابنتي وزوجها؟ فأجابني وقد علته الدهشة: وكيف علمت؟ وهل كتب إليك أحد من مصر بما حدث؟! قلت: كلا، ولكنه إحساس خامر قلبي، وشهد به عندي ما كانت تنم عنه أساريركما كلما جاء ذكره في حديثي معكما. قال مبتسما بدء حديثه، بادية عليه سيما الأسف حين استطرد فيه: «لا يزال ذكاؤك لماحا برغم تقواك، وكنت أحسب أن الذكاء والتقوى لا يجتمعان، أما وقد اجتمعا فلن أستطيع أن أخفي عنك شيئا، والأمر يحتاج في معالجته إلى حكمتك وبصيرتك. إن ابنتك وزوجها يكثر اختلافهما حتى لأضيق أحيانا بهما حين يحتكمان إلي فأحاول إصلاح ذات بينهما، وقد استطعت إلى عهد قريب أن أتغلب على منازعاتهما، وأن أردهما إلى حمى الصلح والسلام، ثم استفحل خلافهما في الفترة الأخيرة حتى خشيت انفصالهما، وكدت أيأس من إمكان تفاهمهما، وإنا لكذلك إذ جاءني كتابك تستأذنينني في البقاء بالمدينة هنا، وقد انتهزت فرصة تناوله واتخذت منه حجة للكلام في غير ما يشتد جدلهما حوله ، ثم رأيت حين قررت المجيء إليك أن تصحبني ابنتك راجيا أن يبعث بعدها شوق كل من الزوجين إلى صاحبه، فينسيهما الشوق خلافهما. هذه قصتهما وقصتي معهما، ولن يستطيع أحد ما تستطيعين أنت علاجا لحال يعصي علي أمرها، وأخشى أن يفلت من يدي زمامها.»
Halaman tidak diketahui