Hakadha Khuliqat
هكذا خلقت: قصة طويلة
Genre-genre
وقالت محدثتي: «وأعجب الأمر أن أكثر الرجال رزانة وحكمة لا يمتازون في هذا الشأن عن أكثرهم طيشا ونزقا، وإن اختلفت أمزجتهم في ذوق الجمال وصاحبته، وأعجب من ذلك أن البريق الظاهر يفتنهم ويغريهم أكثر مما يفتنهم الجمال الحق في المرأة الكاملة، ولا شيء يدل على هذا ما يدل عليه افتتانهم بثياب المرأة وحليها وظاهر زينتها، وأنهم مع ذلك يذكرون أن المرأة هي التي تخلع على هذه الأشياء جمالها ورونقها، وأما إن رأوا سيدة بسيطة الثياب قليلة الزينة فقلما يلفتهم جمالها، وأقل من ذلك أن يلفتهم ما تنطوي عليه روحها وجسمها من كريم المعاني، ورائع الجمال، ثم يقول الرجال بعد هذا إنهم أولو حكمة، وإن كانت حكمتهم أغلب الأمر هي السخف كل السخف، ولم يكن لها من سند إلا سخرية المرأة منهم وفتنتها إياهم.»
أعجبني هذا الكلام فانصرفت أكرره في أعماق روحي، وتبدو لي من خلاله صورة زوجي وعطفه على صديقتي، فلا يزيدني ارتسامها أمامي إلا ازدراء له ومقتا إياه ، فهو الذي أفسد حياتي ودفعني للفرار من بيتي باصطفائه صديقتي على رغم علمه بخفتها وطيشها.
كانت ليلتنا المقبلة آخر ليالينا على الباخرة؛ إذ كانت ترسو الصباح بمرفأ جنوا، ولهذا أقيمت في المساء حفلة تنكرية لم أرد أن أشترك فيها؛ لأن صديقتي بارعة في التنكر، تبتكر له من الأزياء ما لا يرد بالخاطر، وما يلفت الأنظار إليه ويمسكها عنده، ولست حريصة على أن أشهد الاحتفال بانتصارها الساحق للمرة الثالثة؛ لهذا أويت إلى قمرتي، وأعددت متاعنا، وقضيت بعض الوقت أقرأ وأنا في سريري، ثم أطفأت مصباحي.
واستيقظت بكرة الصباح وصعدت إلى ظهر الباخرة فإذا هي ترسو، وانتقلنا توا إلى محطة السكة الحديدية، فلما انطلق القطار ولم تكن به صديقتي تنفست الصعداء، وحمدت الله أن استعدت حريتي، وتنقلنا بين شمال إيطاليا وسويسرا وفرنسا وألمانيا مبتعدين عن المدن ما استطعنا، مستمتعين من هواء الجبال والبحيرات بما رد إلي هدوئي وطمأنينتي، وزادني هدوءا أني انتهيت إلى تصميم حاسم أن أنفصل بالطلاق عن زوجي، وإن كلفني ذلك ما كلفني، فلم يعد يعنيني ما يقوله الناس عني إذا لجأت إلى القضاء، فالأمر لا يتعلق بسعادتهم بل بسعادتي، ولم أعد أعبأ بما كان يذكره صديقنا من تأثر ولدي بهذا الطلاق، فالوضع الحاضر أسوأ أثرا على نفسيهما، وأكثر إساءة لهما، وإذا اضطرني عناد زوجي إلى التشهير به، فلن يكون ذلك ذنبي، ولن أكون آخر امرأة طلقت، ولا آخر امرأة تطلق، ولن يكون لي من وراء هذا الطلاق إلا أن أستعيد حريتي، وأن أحيا كما يحيا كل من ملك حريته.
من يوم صح على هذا الرأي عزمي شعرت بدبيب الحياة السعيدة يجري في عروقي، ورأيت الجبال أبهى منظرا بالخضرة التي تكسو سفوحها، والبحيرات أبرع جمالا بأضواء الشمس والقمر تنعكس على صفحتها، ثم شعرت بنوع من النعمة لم أكن أشعر به من قبل، شعرت بكمال شخصيتي، وبقوة أنوثتي.
وعدنا إلى مصر، فألفيت زوجي يصعد إلى الباخرة وهي لا تزال في عرض الميناء، وأقبل علينا وجلس إلينا بعد أن قبل الطفلين وضمهما إلى صدره وقبل يدي وسلم على المربية، وكأنه مشوق إلينا أعظم الشوق، وبعد أن اطمأن بنا المجلس وتبادلنا السؤال عن الصحة وكيف قضينا سفرنا، نظر إلي في عطف وحنان، وسألني: «ألا تريدين أن نعود جميعا إلى القاهرة؟» فأجبته في هدوء وحزم: «أشكرك يا صديقي فلم يبق إلى حياتنا المشتركة من سبيل، وأنا أطلب إليك منذ اللحظة أن تسرحني، ولن أضن عليك بما تطلب لقاء طلاقي، فإن أجبتني إلى ذلك شكرت لك، وإن أبيت فلن تحمد من بعد إباءك.»
ووجم الرجل لما سمع، ولم نتبادل بعد ذلك كلمة حتى خرجنا من الجمرك، وذهبت إلى بيتي بالإسكندرية، وعلى باب البيت ودعنا ولا يزال واجما كئيبا، وعاد إلى القاهرة، وعدت إلى حياتي أنتظر ما الله فاعل به وبي!
الفصل الثامن
بعد ثلاثة أيام من مقامنا بالإسكندرية جاء صديقنا يسلم علينا ويرحب بنا، وإنما علمت بمقدمه حين سمعت طفلي يستقبلانه أول وصوله بالبشر والتهليل كأنه أعز عزيز عليهما، وصعدا معه إلي، وجلسا من حوله ينظران إليه بعيونهما البريئة نظرات كلها الحب الخالص، واهتز قلبي لهذا المنظر غبطة وطربا، وبقي هو يداعبهما تارة ويحدثني تارة أخرى وأنا سعيدة بلقائه أعظم سعادة، واستأذن يريد الانصراف قبيل موعد الغداء، فدعوته ليتناوله معنا، فاعتذر بأنه على موعد مع أصدقائه من أهل الإسكندرية سبقوني إلى دعوته إذ كانوا معه في القطار الذي قدم فيه، ثم قال وهو يودعني: «سأعود إليك بعد الظهر لحديث طويل بيني وبينك.»
وحاولت بعد انصرافه أن أتوهم ما عسى يكون هذا الحديث، فذهبت محاولتي سدى، وأوحيت إلى المربية بعد أن تناولنا طعام الغداء أن تأخذ الطفلين إلى حديقة النزهة، وأن تعود بهما ساعة المغيب ليخلو الجو لصديقنا في أثناء حديثه، وبعد قليل من خروجهم جاء صديقنا فألفاني وحدي فقال: «حسنا فعلت حتى يكون لي مطلق الحرية فيما جئت إليك بشأنه.»
Halaman tidak diketahui