Hakadha Khuliqat
هكذا خلقت: قصة طويلة
Genre-genre
على أن كتاب زوجي وردي عليه لم يهدياني إلى جواب عن سؤالي: كيف عرف مقري؟ وقد عرفت من بعد أنه علم بتردد صديقنا إلى الإسكندرية، فأيقن أني أقمت بها، فاتصل بمحافظها - وكان صديقه - وطلب إليه أن يدله على عنواني، ولم يجد المحافظ مشقة في الاهتداء إلي حيث أقيم؛ إذ سأل رجال الإدارة في أحياء الإسكندرية جميعا فجاءه من أقيم في حيه بالعنوان، فأبلغه إلى زوجي، عند ذلك أيقنت أن من يعيش في جماعة منظمة يصعب عليه أن يحتفظ بأسرار حياته، وبخاصة ما كان منها واقعا تحت نظر الدولة ورجالها كمحل السكن.
وأقمت أنتظر تصرف زوجي بعد ردي على خطابه، ولم يطل انتظاري، فبعد أيام تناولت كتابا به تحويل على أحد بنوك الإسكندرية بنفقة إقامتنا، وفي الكتاب أن محل كوك أصدر تعليماته إلى فرعه بالإسكندرية ليعطيني تذاكر السفر لي وللولدين والمربية إلى أوروبا، وإلى حيث أريد التنقل بين أرجائها ذهابا وإيابا حتى عودتي إلى مصر، وأنه يريد أن يعرف الزمن الذي أعتزم قضاءه في تلك الربوع، ليبعث إلي تحويلا بالنفقة اللازمة له.
لم تكن دهشتي إذ تلوت هذا الكتاب بأقل من دهشتي يوم تلوت الكتاب الأول، فلو أنني كنت مكانه حين رآني أتحدث في خلوة مع صديقنا لأكلت الغيرة قلبي، ولما ملكت نفسي، ولما استطعت أن أضبط أعصابي، وها هو ذا يبعث إلي بالنفقة كأن أمرا لم يحدث، وكأني لا أزال أهلا لعطفه وحبه، أي إنسان هذا الرجل؟! وكيف ظل واثقا بي ليوقع كتابه إلي: «الزوج الوفي المخلص»، وكأني لست دونه إخلاصا ولا وفاء، أم يحسب نفسه قديرا على أن يشتريني بالمال؟! إن يكن ذلك ظنه فقد خاب رجاؤه، فلست بالجامدة التي تستطيع أن تتحكم في أعصابها وعواطفها كما يتحكم هو في أعصابه وعواطفه.
وألفيت نفسي، بعد أن تلقيت كتابه الأخير، أمام الأمر الواقع؛ لذا ذهبت الغداة إلى البنك فقبضت التحويل، ثم ذهبت إلى كوك لمخاطبتهم في أمر السفر، واستعنت بهم في تصوير خطته وبرنامجه، ووعدتهم أن أعود الغداة لأبلغهم مطالبي، وأخذت وأنا في طريق عودتي أفكر من جديد في زوجي وجموده أمام منظر يثير الغيرة في نفس أكثر الناس جمودا وأشدهم لزوجته - التي لا تزال على ذمته - كراهية واحتقارا.
على أنني سمعت إذ ذاك صوتا يناديني منبعثا من أعماق نفسي: «لك الله يا ظالمة! أوتظنين أنه كان يحمل على نفسه كل ما حمل، ويكلف نفسه عبء سفركم وحالته المالية ما تعلمين، لولا أنه أراد أن يفرق بينك وبين صديقنا من غير ضجة تفضحكما وتسيء إلى ولديكما؟ خففي إذن من غلوائك، واعلمي أن غيرتك الحمقاء وكبرياءك المغرور هما علة ما أنت فيه، وأنك لولاهما لاستطعت أن تكوني أسعد النساء.»
أزعجني هذا الصوت، فلم يبق في قلبي ذرة من عطف على هذا الرجل، أو عاطفة تقربني منه ليفرق بيني وبين صديقنا، وإذا صح أن غيرته هي التي دفعته ليحمل على نفسه ويحتمل عبء سفرنا إلى أوروبا، فأين كانت هذه الغيرة من سنوات مضت؟ وإذا كان يظن أن هذا السفر يصلح ما أفسد، فما أفحش خطأه! لقد تنافر ود قلبينا فلم يعد إلى تجاوبهما سبيل، أما غيبتي عن صديقنا أشهر الصيف فلا أثر لها في نفسي، فليس بيني وبين الرجل إلا أنه كان شهما ذا مروءة، سندني في أوقات محنتي، وأظهر من الرجولية إزاء صديقتي ما لم يظهره زوجي، وأبدى من العطف على ولدي منذ انتقالي إلى الإسكندرية ما استحق ثنائي الجميل.
ومر بخاطري برهة أن أرفض السفر، وأن أظل بالإسكندرية كيدا لزوجي، وامتحانا جديدا لغيرته، ولكني خشيت إن فعلت أن يتمسك علي بهذا الرفض، ويتخذه حجة لأمر يدبره ضدي، فذهبت الغداة إلى كوك، ورتبت معه برنامج رحلتنا وطلبت إليه أن يعد تذاكر السفر كلها، ثم مررت به بعد يومين وأخذت كل ما أعده، وأبلغ المحل الرئيسي زوجي ما حدث، فبعث إلي بكتاب أرفق به تحويلا جديدا لنفقات السفر، وبعث معه بالجوازات اللازمة لي وللطفلين والمربية، وتمنى لنا رحلة سعيدة موفقة.
وجاء صديقنا قبيل السفر يودعني ويذكر أنه كان يود أن يراني ساعة السفر، لولا مخافته أن يلتقي بزوجي على الباخرة لقاء تخشى مغبته. فلما كان يوم الرحيل وذهبنا إلى الميناء ألفيت زوجي في انتظارنا، فلما رآنا أقبل علينا، وقبل الولدين وسلم علي، وحيا المربية، وصعد معنا الباخرة، واطمأن معنا إلى حجراتنا منها، وإلى موضع متاعنا بها، ثم ذهبنا جميعا نستريح فوق ظهر الباخرة، فسرت أمامه وسار خلفي ممسكا كلا من الولدين في إحدى يديه حتى أجلسهما معه على مقعد طويل، ولقد أخذ يداعبهما ويقبلهما، وأخذت أرق له وأرثي لحاله. وإننا لكذلك إذ فاجأتنا المصادفة بمنظر ارتاع له قلبي، رأيت صديقتي مقبلة علينا وحولها عديد من معارفها والمعجبين بها، وهي توزع بينهم نظراتها الساحرة وابتساماتها المشرقة، وتبادلهم في صوت خافت عبارات لم أتبينها، وأشحت وجهي حتى لا أراها، ومرت هي بي في استخفاف وكأنها لا تراني، ولكنها وقفت عند زوجي وحيته وقبلت ولدينا، وبادلته عبارات فهمت من مجموعها أنها تسأله إن كان مسافرا معنا، وأنه يجيبها أن عمله لا يسمح بهذا السفر، إذ ذاك تضاحكت في دلال وقالت بصوت مسموع: «كم آسف لذلك، فقد كانت رفقتك تسعدني، ولو لم تطل لأكثر من الأيام التي نقضيها على ظهر السفينة حتى نصل إلى جنوا.»
هي إذن مسافرة معي على الباخرة، وقد كان زوجي يعلم لا ريب بموعد سفرها، أتراه جاء اليوم ليودعنا، أم اتخذنا سلما ليودعها؟ ها هي ذي تنظر إليه كأنما تريد أن تلتهمه بعينيها، وهو يحدثها ملقيا بنظره إلى الأرض كأنما خجل من أن أراهما يتحادثان، وحانت مني التفاتة إلى مربية أولادي فهمت منها ما أريد فأسرعت إلى الولدين وجاءت بهما عندي، وصديقتي تتعمد إطالة الحديث حتى استغرق دقائق خلتها دهرا أرهفت أذني في أثنائه لأسمع ما يدور بينهما من حديث، ولاحظت منذ جاء الولدان عندي أن زوجي يريد أن ينهي هذا الحديث ليعودا إليه، وأدركت صديقتي ذلك من ردوده المقتضبة، فسلمت عليه سلاما حارا وودعته بنظرة بارعة، وقالت في ابتسام ساحر: «أرجو أن أراك حين عودتي مستريح البال موفور العافية.»
فلما عاد إلى مجلسه على مقعده الطويل نظر إلى ولديه، وأومأ إليهما برأسه فهرولا نحوه مسرعين، وأجلسهما معه كما كانا من قبل، وعاد يقبلهما ويداعبهما، فلما أعلنت الباخرة المودعين بصوتها الضخم تؤذنهم بالانصراف ضم كلا من الولدين إلى صدره، ثم مسح عينيه بمنديله، وأقبل نحوي فسلم علي وعلى المربية، وقصد نحو السلم يهبط عليه إلى رصيف الميناء.
Halaman tidak diketahui