Hakadha Khuliqat
هكذا خلقت: قصة طويلة
Genre-genre
ويظهر أن موقفي هذا قد كان له أثره، فقد بدأ زوجي يسخو في النفقة سخاء لم يكن لي به من قبل عهد، لم أكن أطلب شيئا للمنزل أو لي أو للطفلين إلا أجابني إلى ما أطلب، ووضع في يدي من المال أكثر مما أرغب فيه، بذلك بدأت خطتي المرسومة تنجح على نحو لم أتوقعه، وبذلك أخذ رصيدي الخاص في البنك يزداد شهرا بعد شهر، وأخذت أشعر أنني أمهد بالفعل لاسترداد حريتي، وأن شيئا من الصبر كفيل بأن يفتح لي باب الخطوة الحاسمة لاستكمالها.
وتوفي والدي وأنا في صميم هذه المعركة الصامتة أناضل نضال امرأة مست عزتها وجرحت كرامتها، وقد حزنت أشد الحزن لوفاة هذا الوالد البر الحنون الذي لم يذكر والدتي يوما بسوء، وطالما أسدى إلي أصدق النصح وأحكمه، على أن وفاته قربتني من الأمل الذي كان يداعبني في استرداد حريتي، ولم يكن ذلك لأني ورثت عنه مالا يعتمد عليه، فقد رزقت زوجه الثانية عديدا من الأطفال، فتت تركته وجعل الاعتماد على حصة كل وارث فيها غير مستطاع لمن كان في مثل مكانتي، ولكني أحسست بوفاته أني أصبحت طليقة من قيود معنوية كان وجوده يفرضها علي.
على أنني رأيت أن أدع العيدين يمران على وفاته قبل أن أتخذ أي موقف حاسم؛ وذلك إرضاء لذكراه، وحتى لا يقول الناس إنه - عليه رحمة الله - هو الذي كان يحمل زوجي على إمساكي، بذلك انقضت شهور ستة تابعت فيها خطتي، وازداد خلالها رصيدي في البنك، ورأيت بعدها أن أخطو الخطوة الأخيرة؛ أضطره بها أن ينزل على كل ما أريد.
استغرقت خطتي منذ بدأت تنفيذها إلى ذلك اليوم ما يزيد على ثلاث سنوات خيل إلي أن ما أتممته فيها كفيل بأن يثير زوجي، ويحمله على التسليم من غير قيد ولا شرط، فقد عزلته في غرفة في أقصى المنزل نقلت إليها سرير نومه وكتبه وأدواته الطبية، وكنت أتناول الطعام أحيانا وأخرج من المنزل قبل أن يحضر، وكنت أقص عليه أحيانا في ازدهاء وعلو ما يغمرني به المعجبون من عبارات الثناء التي تثير غيرته، وكنت أبالغ في الإنفاق مبالغة ينوء بها إيراده من عمله، وإيراده من ثروته، وتحمله من غير شك على الاستدانة، وكنت أفعل هذا كله متعمدة إساءته وإثارته ، وكنت أحسب أنه سيجيء يوما وقد فاض معين حلمه وطار صوابه ليقتلني أو ليضربني غير عابئ بالنتائج، أو أنه سيقول لي يوما: «لك ما شئت على أن ننفصل وأتخلص من هذا السعير الذي أعيش فيه»، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، بل ظل الرجل يتحمل كل ما يلقاه مني في صبر، وكأن حبنا المتبادل أو زواجنا لا يزال يملأ قلبه، وكأن ما أوجهه له في وجود أصدقائنا وصديقاتنا لا يحرك شعرة من إبائه وكرامته، ولقد عجبت لهذا الإذعان المطلق من جانبه حتى ظننت يوما أنه مدبر أمرا ضدي، وفكرت ما عسى يكون هذا الأمر لأفسده، ولكن مر الأسابيع والشهور أقنعني أن إذعانه عجز، وأنه أضعف من أن يقف رافعا رأسه أمامي.
وأعجب من ذلك أنه لم يكن يناقش قط في أثناء هذه الفترة الأخيرة في أمر الطفلين وطريقة تربيتهما وتعليمهما، بل كان يقر كل تصرفاتي بشأنهما من غير بحث، فكانا يلبسان كما أشاء، ويذهبان إلى المدرسة التي أختار، وكان لمربيتهما رأي تأخذ وتعطي فيه معي حين لا يقول هو شيئا، وكأن الأمر لا يعنيه، وكأنهما ليسا ولديه.
وكانت حالته هذه تثير إشفاقي عليه أحيانا، فقد بدا لي أنه انحلت همته، وتضعضع عزمه، وتداعت إرادته؛ فأصبح كأولئك الذين يصيبهم الانهيار العصبي، فهم يبثون كل إنسان شكواهم، ولا يعرفون كيف يواجهون الحياة وأعباءها، وهم يخشون يومهم وغدهم، ويحسون الخطر في كل لحظة يهدد وجودهم، وطبيعي أن تأثر بهذا الاضطراب عمله في عيادته، وتزعزعت ثقة مرضاه به، ولكني مع ذلك لم أكن مستعدة لتخفيف طلباتي المالية منه؛ لذلك اضطر أن يلجأ إلى كبير في الدولة يرجوه أن يسند إليه منصبا طبيا فيها، وكان هذا الكبير يعلم من أمره لكثرة ما سمع به ومنه ما أثار شفقته، فأسند إليه عملا محترما لا يحتاج إلى مجهود فكري، فهو إشراف إداري على طائفة من الأطباء الناشئين في مصلحة كبرى، وما لبثت حين علمت بذلك أن اطمأننت إلى أنني في حل من أن أمتص مرتبه هذا أو معظمه، فطفلاي أولى به من أبيهما، ومن الواجب علي وحدي أن أفكر في مستقبلهما.
ترى هل بقيت فيه بعد كل الذي مر به بقية للنضال، أم تراه أصبح كالجدار المتداعي، لا يلبث حين تعصف به الريح أن ينقض وينهار؟ لقد خيل إلي يوما أنني لو طلبت إليه أن ننفصل بالطلاق فإنه لن يتردد في ذلك، بل يتلقاه شاكرا متنفسا الصعداء، مؤمنا بأنه قد آن له أن ينتقل من الجحيم إلى المطهر في انتظار يوم تتم عليه مغفرة الله فيه، لكني خشيت إن أنا أقدمت على هذه الخطوة بنفسي أن يعاوده عناد الفلاح فيرفض لغير شيء إلا التشبث بهذا العناد، لهذا آثرت أن ألقي على صديقنا هذا العبء، فإن نجح فيه في غير مشقة فذاك، وإلا أقدمت على الخطوة الحاسمة التي اعتزمتها.
ودعوت صديقنا واتفقت معه على أن يذكر لزوجي أن الحال التي يعانيها لا تحتمل، وأنه رحمة به يرى أن يخاطبني في أن ننفصل بالطلاق، فإن أنا قبلت ذلك ولم يدفعني العناد إلى لدد في الخصومة كان ذلك خيرا له ولي، واضطلع صديقنا بهذه المهمة وخاطب زوجي كما اتفقنا، لكنه عاد يذكر لي أن زوجي أجفل حين سمع كلمة الطلاق، وقال له: «وماذا يقول الناس عنا؟ وماذا يكون مصير طفلينا؟ إنني احتملت وأحتمل ما تعلم، وأكثر مما تعلم، حتى لا يشمت الشامتون بنا، وحتى لا يشعر الطفلان بأنهما ليسا كغيرهما من أبناء طبقتهما، وأنا لا أزال أطمع في أن يرد الصبر إلى زوجي رزانتها وحكمتها، بل إني لأعتقد أنها لو خوطبت في هذا الأمر الذي تخاطبني فيه لكانت أكثر مني إنكارا له وتقززا من الكلام فيه.»
وعجبت لما سمعت! لقد كنت أتوقع أن يغتبط الرجل بفكرة انفصالنا، وها هو ذا يفزع منها وينفر أشد نفار، ولست أحسبه يفزع وينفر تعلقا منه بي، أو تلبية منه لداعي محبته إياي، فلو أنه أحبني كما أحب ليلى المجنون لما بقي في قلبه أثارة من هذا الحب بعد الذي صنعته معه.
وهنا برقت أمامي فكرة آمنت بأنها التصوير الصحيح لما بعثه على أن يرفض طلاقي، لقد خيل إليه أن صديقنا يريد أن ننفصل لأتزوجه، فقد أذاعت صديقتي هذا الحديث بعد انقطاع ما بيننا وألحت في إذاعته، وأكبر ظني أن ما تذيعه صديقتي يؤمن به زوجي، ولذلك عاند وتشبث بعناده. نعم، ذلك باعثه على رفض ما عرض عليه أن ننفصل بالحسنى، أما وذلك شأنه فلم يبق لي مفر أن أنفذ خطتي، ولا أظنه يستطيع مقاومتها، ولو جمع في نفسه مكر الفلاحين جميعا، بل مكر النساء جميعا.
Halaman tidak diketahui