Hakadha Khuliqat
هكذا خلقت: قصة طويلة
Genre-genre
وأقبل المساء وأشاع القمر بضيائه الرطب الندي معاني النعيم في أجواء القاهرة، واشتملها كلها، وتزينت لهذه النزهة الصحراوية زينة جمعت إلى البساطة الإغراء. ودق التليفون، وقال زوجي إن القوم في طريقهم إلينا، فهبطنا إلى الطابق الأول حتى إذا سمعنا نفير سياراتهم خرجنا إليهم فألفيناهم نزلوا من السيارات لتحيتنا، وتعرفت إليهم، ودعاني أحدهم لأجلس في سيارته إلى جانبه وهو على عجلة القيادة، وذهبت زوجه في سيارة أخرى، وتفرقنا حتى لا تجلس زوجة مع زوجها في سيارة واحدة، وانطلقنا مسرعين حتى إذا بلغنا طريق الهرم سرنا على هون مبطئين، وما كان لنا ألا نفعل، فقد سكب القمر على ما حولنا من المزارع والمساكن أمواجا من نور غمرت ما بين السماء الأرض، وجعلتنا نسبح منها فوق أثير شعري رقت معه قلوبنا، وسمت عواطفنا حتى كادت تلتقي وتتعانق، قلت لزميلي في السيارة: «لست أدري كيف أشكر لكم هذه الدعوة، فلست أذكر أني رأيت القمر أبهى سنا، وأروع جمالا في هالته البديعة مما هو اليوم، لقد طالما اجتزت هذا الطريق في ضوء عاشق السموات فلم أره يرنو إلي ويحدثني بمثل هذه اللغة التي يحدثني بها الليلة؟»
وأجاب صاحبي: «أنت يا سيدتي التي أوحيت إلى القمر كل هذا الشعر الذي يوقع لنا الليلة أنغامه، وسترينه على سفح الأهرام، وعلى وجه أبي الهول أروع شعرا وأبدع إيقاعا بفضل وحيك وإلهامك.» واتصل بيننا بعد ذلك حديث رقيق حرصت ما استطعت على أن يزداد ظرفا ورقة وسحرا، فإذا تحدث الرجل بعد ذلك عني حديثا بلغ سمع زوجي عرف أنه ظالمي، وأن من حقي أن أثور بهذا الظلم.
وبلغنا سفح الأهرام، وأوغلنا في الصحراء، ثم تركنا السيارات وأخذنا ننعم في هذا الجو الشعري الساحر بأعذب ألوان الحس، كنا نتطلع إلى ناحية الأهرام فنراها قد كساها القمر من ضيائه حلة زادتها بهاء ومهابة ورهبة، ثم نتطلع إلى رمال الصحراء المتموجة تحت أشعة القمر في ارتفاع وانخفاض يخلقان منها بحرا لجيا وإن لم يصطخب له موج، وإن كان صامتا صمت الليل، ونرتفع ببصرنا أحيانا إلى السماء فإذا الجو كله معطر بعبير هذه الساعة اللذيذة المنعشة، وإذا القمر قد أذاب في هذا الجو نورا مطمئنا تستريح له العين، وينهل منه القلب، وتنتشي بسحره العواطف، ويعبث الهوى في أثنائه بالأفئدة بين الجوانح.
وسرعان ما أقام القوم مرقصا على أنغام أسطوانات جلبوها وجلبوا «فونوغرافها» معهم، وشاركت وشارك زوجي بطبيعة الحال في الرقص، وإن لم نرقص مرة واحدة معا خلال الساعات المتعاقبة التي شهد فيها ساهر السموات هذا المرح السابغ المجنون، وقد ألقيت نفسي في أثناء هذا الرقص بين أذرع الرجال من أصحابنا جميعا، وجعلت أكثر رقصاتي مع زميلي في السيارة، وكنت في أثناء رقصي معه أتابع الأحاديث الحلوة التي بدأناها في طريق الهرم.
فلما أخذنا من الرقص حظنا كاملا، جلسنا على سجادة جيء بها لهذا الغرض، وتناولنا طعاما خفيفا نكظم به صيحات معداتنا بعد أن هضم الرقص ما كانت تحتويه، وجعل القوم في أثناء الطعام يثنون أطيب الثناء على رقصي، وينسبون لقوامي البارع أكبر الفضل فيه.
وعدنا أدراجنا بعد أن شكرت القوم من كل قلبي لأنهم أتاحوا لي فرصة متاع لا عهد لي بمثلها من قبل، وأجاب القوم بأنهم هم الذين يشكرونني لأني دفعت إلى سهرتهم من حيويتي ومن رقتي حياة ورقة لم يعرفوهما فيما سبق لهم من مثلها.
وانطلقت السيارة بي وبزوجي في هذه الساعة المتأخرة من الليل، فلما شعرت أني وإياه في خلوة قلت: «ألم تحدثك نفسك طيلة ساعات الرقص أن تطلبني لرقصة معك؟» وكأنما أدهشه سؤالي هذا فأجابني: «لقد رأيتك في أثناء الرقص كله في غبطة لم أرد أن أفسدها عليك، أو أنتقص منها.» قلت: «لست أنكر أنني اغتبطت بهذه النزهة الساهرة من أولها إلى آخرها، لكنك كنت أكثر مني اغتباطا، فقد رأيتك تائها في أحلام أفسح سعة من الصحراء، وأقسم أنني لم أكن خطرت بأحلامك، ولو أنني خطرت بها لدعوتني ولو مرة واحدة إلى الرقص معك.»
وأجابني وكأنما أخذ لهذا الجواب عدته: «لكن ذلك لم يكن يليق، فنحن مدعوان إلى هذه الحفلة، فيجب ألا يشعر أصحابها بأنا ننكمش عنهم إلى ناحية لحظة واحدة، ولأي اعتبار.» قلت: «وما لهم لم يرعوا ذلك فيما بينهم، فقد راقصت كل سيدة زوجها مرة على الأقل، أما أنت فقد تعمدت إهمالي لغرض لا أفهمه.» وأدرت وجهي غاضبة، واستمر هو يقود السيارة إلى منزلنا.
ومر بي صديقنا الغداة فقصصت عليه أنباء سهرتنا وما دار بيني وبين زوجي حين عودتنا، فابتسم وقال: «مسكين زوجك! إنه رجل طيب، ولكنه لا يفهم العواطف كما تفهمينها، هي ليست في نظره لونا من ألوان الفن الجميل الذي يشهد الناس صوره المختلفة على المسرح، ولكنها بعض واجبات الحياة الزوجية يؤديها الرجل فيما يبديه من عناية براحة زوجه وأولاده، وعذره عن هذا الفهم أنه فلاح، هو من أبناء الأعيان يرون الحب المسرحي عيبا غير لائق بالناس الطيبين، وهو مقتنع بأنه يؤدي لك ولطفليك ما لكم عليه من حق، ويحسب أنه يؤدي هذا الواجب على الوجه الأكمل، وهو يظهر لي دهشته أحيانا، ويسألني: أمقصر هو في حقكم في شيء برغم ما يحمل نفسه من أعباء يخشى أن ينوء بها يوما من الأيام؟»
وقلت في نفسي: «نعم، هو فلاح وفيه خبث الفلاحين، وكل ما درسه، وكل ما رآه في أسفاره إلى أوروبا، وكل ما تعلمه من معاشرة الذوات وأبناء الذوات لم يغير طينته، وإن أسبغ عليه طلاء ظاهرا من الثقافة والتمدن، فإذا حك هذا الطلاء ظهر الفلاح بقسوته وضعفه وخبثه، ألا يتزوج أحدهم زوجة ثانية ثم لا تعلم زوجه الأولى بما فعل سنين متعاقبة؟! وما يدريني لعله تزوج صديقتي، وهو - لا ريب - يحبها وإن لم يتزوجها، إن هذه الطيبة التي يتظاهر بها ليست إلا ثوب رياء يستر به مكره وخبثه، أفلا يجمل بي أن أحاربه بمثل سلاحه، فأظهر غير ما أبطن، علي بذلك أستل منه سره، وأقف على مكنون صدره؟»
Halaman tidak diketahui