Hakadha Khuliqat
هكذا خلقت: قصة طويلة
Genre-genre
فبهت الرجل لسماع هذه العبارة، وقد قلتها بنغمة كلها الجد والحزم، وقال بعد هنيهة: «أوهجست بنفسك هواجس جنونية جديدة لتقولي مثل هذا الكلام السخيف؟» قلت: «فلم إذن لا يصاحبنا زوجي إلى أوروبا؟»
هنا تبسم الرجل ضاحكا وقال: «إذن فاعلمي أنه استدان المبلغ اللازم لسفركم، وكنت أنا واسطته وضامنه، وهو يريد أن يشتغل في الصيف ليسدد ما استدان، أويكفيك هذا العلم لتهدأ نفسك وتسكن أعصابك؟»
قلت وأنا أحاول التسكين من وساوس نفسي: «ما كان أغناه عن هذه الاستدانة وأغناني عن التعرض لهذه الهواجس! إنني لم أرغب إليه في السفر، بل هو الذي عرضه علي، ولو علمت أن الأمر يقتضيه أن يستدين لما قبلته، بل لكفانا أن نقضي معا شهرا بأي مصيف، وأن نقيم بقية الصيف هنا في وكرنا وملجئنا»، وأجاب صديقنا مبتسما: «ثم تبقى أعصابك مضطربة، وحسك مرهفا طيلة العام المقبل؛ فتجعلين حياته جحيما! لا تحسبي يا سيدتي أنه نسي في هذا الأمر نفسه، ولم يفكر إلا فيك، فقد ذكرت له حين طلب إلي التوسط في الاستدانة وضمانه فيها هذا الكلام الذي قلت أنت الآن، وعرضت عليه أن تذهبوا إلى مكان قصي كمرسى مطروح، فحدثني بلغة الطبيب الذي يعرفك خير معرفة أنك لا دواء لك إلا السفر إلى أوروبا، وأن ما يتكلفه في ذلك من النفقة أيسر عليه من بقائك فيما أنت فيه مما ينغص عليه وعلى الطفلين عيشهم، ألا ترين أنه يحسن التقدير والحساب؟ فاطرحي من خيالك المريض هواجس لا وجود لها إلا في هذا الخيال، واستقبلي سفرك بنفس راضية لتعود إليك صحتك، وليعود إلى طفليك مرحهما وابتسامهما، وسأمر بك بعد ثلاثة أيام لأعرف كيف أعددت لرحلتك وبرنامجها.»
وصدق الرجل وعده ومر بي بعد ثلاثة أيام فألفاني أكثر هدوءا وطمأنينة، ذلك بأنني كنت قد أخذت أثق به وأطمئن إلى كلامه بعد أن أيقنت من خلال أحاديثه المتكررة أنه لن يتزوج صديقتي، ودار بيننا في رفق حديث هادئ أطلعته في أثنائه على خطة سفري وعدته.
وصحبني هو وزوجي إلى الإسكندرية حتى ودعاني ساعة تحركت الباخرة، فلما بعدت عن الشاطئ وغابت عنا آثاره ذهبت أستقبل هواء البحر أملأ منه صدري ورئتي، مقتنعة بأن فيه الدواء الناجع لعلتي، واستنشقت هذا الهواء ملء خياشيمي، فأحسست فيه حياة تنعش قلبي، وترفع عن صدري عبئا كان يثقله، وتمددت على مقعد طويل أرحت إلى مسنده ظهري ليكون صدري أكثر استقبالا لهذا الهواء المحسن، وتطلعت بنظري إلى الأفق الممتد بين السماء والماء، وكأنما يتهادى مع الباخرة فوق لج البحر العظيم، وانقضت ساعة وأخرى وأنا على هذه الحال، أزداد كل ساعة شعورا بأن الأعصاب المنهارة التي كانت تتحكم في وجودي تستقيم وتقوى شيئا فشيئا، ألم يقل صديقنا إن السفر إلى أوروبا فيه دواء علتي، وهأنذي أشعر بفعل هذا الدواء منذ اللحظات الأولى.
وأقبل المساء فكنت أهدأ نوما، وتقضت أيامنا على الباخرة وأنا أشعر كل يوم بأنني أحسن حالا مما كنت عليه في اليوم الذي سبقه، وكان على الباخرة سيدات رقيقات رأينني ورأين أطفالي، فكن يداعبن الأطفال ويحادثنني في مألوف ما يتحدث المسافرون فيه، فلما أصبحت اليوم الأخير والباخرة تتأهب لإلقاء مراسيها على رصيف المرفأ، جئن يودعنني، ثم قالت إحداهن وكأنها تهمس في أذني: «أهنئك من كل قلبي يا سيدتي، لقد أشفقت عليك ساعة رأيتك تصعدين الباخرة في الإسكندرية، كان وجهك شاحبا، وملامحك متعبة، وكان الجهد باديا عليك، وكأنما قضيت زمنا طويلا في غرفة مظلمة، أما الآن - ولا حسد - فوجهك مشرق، وملامحك باسمة، وكلك حيوية ونشاط.» فشكرتها وقلت: «لقد كنت أحس الإعياء حقا، لقد مرت بي أحداث أرهقتني، وأشعر الآن أنني أفقت وحييت.»
وسافرنا توا من المرفأ إلى الجبال، وأخذت أتنقل مع الأطفال من مصيف إلى مصيف، وقد نسيت كل شيء إلا أنني حييت، فلما اطمأننت إلى العافية وإلى أطفالي أخذت أستعيد هذا الماضي القريب في دهشة، وأعجب لما حدث فيه، فإذا رأيته بدأ يشغل حيزا من تفكيري لم يكن أيسر من أن أهز أكتافي، وأعود إلى متاعي بجمال الطبيعة من حولي، لكن أمرا واحدا لم يبرح ذهني، ذلك أمر صديقتي وعناية زوجي بشأنها وبميراث أطفالها عناية غير مألوفة، فلن تحرك الرحمة والإنسانية وحدهما رجلا ليعرض نفسه إلى ما تعرض له زوجي من أجل هذه الفاتنة!
وفيما ننتقل بين المصايف صادفتني السيدة الأمريكية المعنية بزينة سريرها أكثر من عنايتها بزينة خروجها ونزهتها، وهي التي عرفتها الصيف الماضي إذ كان زوجي معنا في أوروبا، فقد صادفتني أسير في بهو الفندق وطفلاي يسيران معي، فلما رأتني أقبلت علي وعانقتني، وأبدت من السرور بلقائي ما أنعش نفسي، وعدنا سيرتنا العام الماضي، وزدنا عليها أنني جلست وإياها على مائدة واحدة في غرفة الطعام.
وكانت تدعو بعض أصدقائها وصديقاتها أحيانا لتناول الطعام معنا، فيتيح ذلك لنا فرصة الحديث في شئون شتى، ولهؤلاء الغربيين جرأة على موضوعات يمنعنا الحياء في مصر أن نعرض لها، ولست أنسى لهم حديثا ترك في نفسي من بعد أثرا عميقا، وكان للسيدة الأمريكية فيه رأي جريء لم أجد مثل صراحته فيما سبق من مطالعاتي، فقد تحدثوا عن الحب، وعن صلات الرجل والمرأة، وأيد بعضهم ما يقوله الروائيون من أن الحب عاطفة يقصد بها الرجل تملك المرأة، وأيد آخرون مذهب شوبنهور من أن الحب أسطورة تقصد الطبيعة من ورائها إلى تخليد النوع وتحسينه، قالت الأمريكية: «أما أن الحب عاطفة يقصد بها الرجل تملك المرأة، فحديث خرافة ابتدعه الرجال إرضاء لغرورهم، فلست أعرف رجلا تملك امرأة في غير الكتب التي يزوقها القصاصون، أما الواقع فإن النساء هن اللواتي يمتلكن الرجال، ويسخرنهم كما يشأن لأغراض الحياة، وقصة آدم وحواء تصور هذا الواقع خير تصوير، فحواء هي التي أرادت أن تطعم من شجرة الخلد فسخرت آدم لما أرادت، فأذعن لها وهو يعلم أنه يخالف بهذا الإذعان أمر ربه، والمرأة هي التي تخلق من الرجل ملاكا أو شيطانا حسب هواها، ترتفع به إلى الذروة أو تهوي به إلى الحضيض، وقل أن كان العكس صحيحا، والرجال أنفسهم لا ينكرون على المرأة هذا السلطان ولا يأبونه، ألا يتحدث الشعراء من أقدم العصور عن ربة الشعر على أنها مصدر وحيهم وإلهامهم، والغزل في الشعر من فنون الرجال يتغزلون به في المرأة، ويتخذونه زلفى إليها؟ وقل أن روى التاريخ لامرأة شعر غزل إلا أن يكون الرجال قد زيفوه لينزلوا بالمرأة إلى مثل مكانتهم، وماذا يمتلك الرجل من المرأة فيما يزور القصاصون؟ جسمها، إنه يملكه سويعة يذل لصاحبته بعدها ما عاش، وفي طبعها ما في طبع كل أنثى مما يذكره شوبنهور: أن تخلد النوع. والرجل يحسب أنه يتملكها حين تسخره هي ليتم أسمى غرض في الحياة وأرفعه، ذلك أن تخلق جيلا جديدا!»
قالت سيدة من الحاضرات: «إن ما ذكرته يصدق على الزواج أو على التناسل إن شئت، لكنك لم تذكري شيئا عن الحب، والحب لا صلة له بالتناسل، بل هو عاطفة مجردة مكتفية بذاتها كالصداقة. والحب كلما ازداد تجردا ازداد سموا، وكلما كان خالصا لوجهه وحده كان رحيق العواطف وخلاصتها جميعا.»
Halaman tidak diketahui