Hakadha Khuliqat
هكذا خلقت: قصة طويلة
Genre-genre
وخرجت مع الطفلين والمربية إلى فناء الفندق نستمتع بدفء الشمس، وفرح الطفلان بهذا التغيير في لون حياتهما، واندفعا إلى ناحية حديقة الفندق، وتبعتهما مربيتهما، فبقيت زمنا أحدق فيما حولي وأرقب هؤلاء السائحين، رجالا ونساء، وقد جاءوا إلى مصر من أقصى الأرض، يستمتعون بجو شتائها المنعش، وبمشاهدة مناظرها الخالدة على صفحات الطبيعة، وفي صحف التاريخ.
فلما قربت الظهيرة قمت أسير في طريق يشطر الحديقة حتى بلغت بابا من الخشب مقفلا، لكنه غير موصد، وصادفني عند هذا الباب بستاني حياني وقدم لي باقة من زهر البنفسج، ثم فتح لي الباب الخشبي وقال: تفضلي يا سيدتي إن شئت، فقد تجدين بعض معارفك في حديقة «ونتر بالاس».
وكان هذا الباب الخشبي يفصل بالفعل بين حديقتي الفندقين: الأقصر، و«ونتر بالاس»، وذكرت هذه اللحظة صديقتي التي مات زوجها تاركا لها ولذريتها الضعاف تركة قيمة، طمع فيها أهله، فمنعوا ورثته من الاستيلاء عليها وعلى إيرادها. وكانت أم صديقتي ذات ثراء، وكانت شديدة الإعزاز لابنتها؛ لأنها كانت وحيدتها بين إخوة ثلاثة قادرين على الكسب الوفير؛ لذلك أتاحت لها المتاع بالحياة بعد انقضاء مراسم الحزن على زوجها، فسافرت إلى الأقصر، وتركت أبناءها في رعاية أمها، ونزلت «ونتر بالاس»، فلما ذكرتها تخطيت إلى حديقة الفندق الفخم لعلي أجدها، ألا ما أبدع هذه الحديقة وأبهاها! وما أحقر حديقة فندق الأقصر إلى جانبها! فهذه الأشجار الباسقة، وهذه الأزهار النضيرة، وهذه الملاعب الفسيحة للتنس، وهذه الغزلان والطيور الجميلة في الحظائر، وهذه المقاعد الوثيرة بأشكالها المختلفة منثورة في كل ناحية من الحديقة، والشمس والظلال تتداول جوانب المكان المعطر بشذا الأزهار، هذا كله لم أشهد له نظيرا فيما زرت من فنادق أوروبا، وهذا كله يجوس خلاله نفر قليل من الرجال والسيدات، كثرتهم من الأجانب، ويلعب في بعض أرجائه أطفال كأنهم الأزاهير لفرط العناية بهم وبما يلبسون.
درت في أرجاء الحديقة ألتمس صديقتي فلم أجدها، وعلوت السلم المؤدي من الحديقة إلى الفندق آملة أن أجدها في بعض أبهائه، أو أسأل عنها بعض رجاله، فعلمت من البواب أنها ذهبت في صحبة إلى بيبان الملوك، وأنها ستكون - لا ريب - ساعة الشاي في البهو الكبير، ودلفت من باب الفندق إلى شرفته، يا للجلال والبهاء والعظمة والجمال! فهذه الشرفة الرفيعة البديعة تطل على منظر كله الروعة لا نظير له في العالم، تطل على النيل تنساب مياهه السماوية الزرقة، هادئة هدوء هذا الفصل الرقيق من السنة، وتناسب فوق مياهه الزوارق، ذاهبة آيبة بين طيبة الأحياء، وطيبة الأموات، وقد تطوف أحيانا حول جزيرة ناتئة في النهر حتى تغمرها مياه الفيضان، وعلى الجانب الآخر من النيل تتدرج هضاب «طيبة الأموات» في ارتفاع حتى تختلط بالسماء عند مدى النظر.
ووقفت إلى جانبي سيدة رأتني أحدق في إعجاب إلى هذا المنظر البديع، وعلمت أنني نزلت الأقصر العشية، فحيتني بالإنجليزية وقالت: إن هذا المنظر يكون أبدع بكرة الصباح وساعة المغيب وأشد سحرا، وهذه الجبال التي تبدو أمامك الساعة وقد غمرها ضوء الشمس، وكاد وهجها يحجبها عن النظر، تبدو في الإصباح والإمساء وقد بادرتها الشمس، أو انحدرت من ورائها، ورسمت عليها خطوطا من أشعتها الذهبية، تخالينها سطورا تنطق بما احتوته هذه الجبال في جوفها، من فراعين وملكات، ومن قسس ووزراء، ومن فعال هؤلاء وأولئك، وكيف كتبوا من تاريخ الإنسانية صحفه الأولى. إنني أهيب بك أن تجيئي إلى موقفك هذا بكرة الصبح وساعة المغيب، ليتضاعف متاعك بالنيل والصحراء والجبال وما تحدث عنه من تاريخ ما قبل التاريخ!
وأقمت مكاني زمنا مأخوذة بالمنظر الساحر أمامي، فلما امتلأت منه العين والجوانح عدت إلى فندقي أتفقد الطفلين العزيزين، وأشرف مع المربية على طعامهما، وتحدث إلي زوجي تليفونيا من القاهرة ليطمئن علينا فطمأنته على كل شيء، وغفوت غفوة الظهيرة، أستريح بها من شقة سفر أمس، فلما دنا موعد الشاي ذهبت من جديد إلى «ونتر بالاس»، وما كدت أدخل البهو الكبير حتى رأيت صديقتي في جانب منه، فقصدت إليها وجلسنا معا إلى مائدة لا ثالث معنا حولها، وإنا لنتجاذب أطراف الحديث إذ أقبل علينا رجل ناهز الثلاثين، فحيا صديقتي، ثم أحنى رأسه تحية لي، واستأذن وجلس. وعلمت أن هذا الرجل من الأقصر، وأن له في فنادقها شأنا، وسرعان ما أدركت أنه كثير التردد على نزلاء هذه الفنادق ونزيلاتها، فما كاد يشاركنا الحديث حتى رأيته يذكر لصديقتي أسماء طائفة من نزلاء «ونتر بالاس» ونزيلاته، ومن نزلاء فندق الأقصر ونزيلاته، ويروي عن هؤلاء وأولئك، وبخاصة عن هاتيك اللاتي ذكر أسماءهن، أنباء تنقلاتهن وملابسهن، ومبلغ انسجام ملابس السهرة على هذه وعدم انسجامها على تلك، وكيف ترقص هذه وكيف ترقص تلك، والحق أني ضقت بحديثه، لكن ما أبداه في أثناء الحديث من استعداد للقيام بأية خدمة أرغب فيها اقتضاني مجاملته، بل ملاطفته، ولعل كثيرات غيري من نزيلات الفندقين كن في مثل موقفي، يتظاهرن بالمجاملة والملاطفة انتظارا لخدمة يؤديها هذا الرجل، أو تقديرا لخدمة سبق له أداؤها.
وأحسست ساعة المغيب تدنو، فاستأذنت صاحبتي وصاحبها لخمس دقائق، ودلفت إلى الشرفة فألفيت السيدة التي وقفت إلى جانبي ساعة الظهيرة، وكأنها في انتظاري، ورأتني مقبلة فصاحت: «أترين هذا المغيب البديع؟ لكأن الشمس علمت بأنك تريدين مشاهدتها، فجملت الوجود كله بزينتها ، انظري، انظري إلى النهر والسماء والجبال، وكأن المغيب يضمها جميعا في غلالة من ذهب.»
وانطلقت السيدة تصف ما ترى مأخوذة، كأنها واقعة تحت سلطان منوم مغناطيسي مقره قرص الشمس! وأخذت بالمنظر وبحديثها، ووقعت أنا الأخرى تحت سلطان هذا المشهد الفذ من مشاهد الطبيعة، فلما آن للمساء والنهر والجبال أن تخلع زينتها عدت إلى مجلسي مع صديقتي، وقد غلبني البهر فعقد لساني، فلما أفقت من بهري أخذت أتكلم وأصف ما شهدت، وأصغيت لصوتي ولعباراتي، فإذا هي أنغام توقع لحن هذا المشهد الفذ الرائع، وقضيت في هذا الحديث زمنا رأيت الرجل في أثنائه مسحورا، فلما كاد يتولاه البهر الذي كان قد تولاني، تركت «ونتر بالاس»، وعدت إلى فندقي وإلى طفلي.
وأصبحت بكرة الغد، وتناولت فطوري، ثم إذا خادم الفندق تستأذن علي وتدخل إلي طاقة كبيرة من أزهار شتى كلها الفتنة والجمال، شبكت بها بطاقة صاحبنا الأقصري الذي تناول الشاي معنا أمس في «ونتر بالاس».
ولم يكن عجبي لجرأته دون سروري بهذه الأزهار البديعة الفاتنة، وطلبت إلى الخادم فأحضرت من الآنية ما وزعت فيه الأزهار لأزين بها جوانب غرفتي، فلما اطمأننت إلى أن كل آنية وضعت حيث يجب أن توضع أدرت نظري في الغرفة، وارتسمت على ثغري ابتسامة الرضا، فالأزهار تنشر في المكان الذي توضع فيه بهجة، وتبعث إلى القلب المسرة، وإلى النفس الغبطة والطمأنينة، ودعوت طفلي ومربيتهما، فاستمتعوا معي بهذه البهجة وهذا الجمال.
Halaman tidak diketahui